الاستاذ جنيد السعاوي
ترجمة اورخان محمد علي
عندما كبرت علمت أن هذا مرض من الأمراض النفسية …. ولكنني لم استطع الشفاء منه ولا التخلص من براثنه .
ولكن ها أنا ذا أدخل مكانا من هذه الأمكنة الضيقة دون إرادة مني … أدخله مضطرا وعلى رغمي .
كانوا قد لفوني ووضعوني في تابوت طويل وضيق … كنت اسمع جيدا أصوات من حولي …. ومع أنني كنت مغمض العنين ، إلا أنني – بطريقة ما – كنت استطيع رؤيتهم … كانوا يقولون :
– يا للمسكين ! … لقد مات في عز شبابه …. لقد كانت له آمال عريضة وأعمال لم يتمها ولم ينجزها .
كانت هناك فعلا أعمال عديدة لي بقيت ناقصة تنتظر مني انجازها … فمثلا لم استطع فتح محل جديد لإبني ، كما لم أنته من دفع الأقساط للسيارة وللتليفزيون الملون ، كما أصبح أملي في إنشاء شركة كبيرة في المستقبل أجمع فيها الأصدقاء أملا بعيدا . ومع أن الشتاء أصبح على الأبواب ، إلا أنني لم أكن اشتريت بعد الفحم والحطب لمدفأة البيت ، كما لم أصلح أماكن نصوح المياه في سقف البيت .
وبينما كنت استعرض في ذهني الأعمال التي بقيت ناقصة تنتظر مني إنجازها فوجئت بصوت يرن في أذني …. صوت وجل منه روحي ، ونفذ إلى أعماق عقلي وتردد صداه هناك ….. كان كأنه صادر عن مكبر للصوت :
– لقد فات ذلك وانقضى !
وبحسرة قلت في نفسي :" ليته لم يفت ولم ينقض " .
لا أدري كيف وقع لي ذلك الحادث …. كيف وقع مع أنني أجيد قيادة السيارة.
وبينما كنت أحاول أن استجمع في ذهني ما حدث أحسست ان أصدقائي يحيطون بي ويحاولون غلق غطاء التابوت الذي أتمدد فيه دون حراك …. ومع أنني حاولت أن اصرخ بكل قوتي وأن أنهض من مكاني لأمنعهم من ذلك إلا أنني فشلت وعجزت …. إذ لم أستطيع الحركة ولا التفوه بأي كلمة .
بعد قليل جثم علىّ ظلام كثيف … حولت بصري إلى شقوق التابوت التي كان يتسلل عبرها ضوء قليل ….. وفي فزع لا يوصف قلت لنفسي :
– يا الهي !… يا الهي !… ماذا ستكون حالي الآن ؟… ما العمل ؟
كنت عاجزا عن التفكير من شدة الفزع .
في هذه الأثناء حُملت على الأكتاف …. وبدأوا يسيرون ببطء….كان التابوت يهتز قليلا …. وكان من الواضح من الأصوات التي كانت تصلني من الخارج أن المطر ينهمر… كان صوت قطرات الماء يختلط مع صوت صرير خشب التابوت .
لاشك أنهم الآن في طريقهم إلى الجامع لأداء صلاة الجنازة ….عندما خطر ببالي الجامع تذكرت انه مع كونه قريبا جدا من داري ، وعلى رغم ندائه المتكرر ودعوته للصلاة خمس مرات كل يوم فإنني لم أجد متسعا من الوقت للذهاب اليه …. ولكنني كنت عازما على البدء بالصلاة عند بلوغي سن الخمسين …. الكل يعرف هذا …. لقد قلت ذلك مرارا لأصدقائي…. نعم كنت سأبدأ بالصلاة ، وكنت سأترك كذلك عاداتي السيئة التي كان الكثيرون يشكون منها .
أجل !…. أجل !…. لولا هذا الحادث لأصبحت في المستقبل شخصاً جيدا …. لولا هذا الحادث .
ومرة أخرى طرق سمعي ذلك الصوت الذي لا أعرف مصدره:
– لقد فات ذلك وانقضى .
بعد قليل حملت على الأكتاف مرة أخرى …إذن فقد انتهت صلاة الجنازة …. وعندما مررت أمام مقهى محلتنا سمعت الضحكات المرحة لأصدقائي الذين كنت العب معهم الورق كل يوم … لا شك أنهم لم يسمعوا بعد بخبر وفاتي .
بعد أن بعدت الأصوات وخفتت شعرت من ميل التابوت أنهم يصعدون التل نحو المقبرة … شعرت ان الكفن قد ابتل في عدة مواضع من تسلل قطرات الماء من شقوق التابوت ، إذ كان المطر المنهمر قد اشتد … أصخت سمعي للأصوات في الخارج … كان بعض أصدقائي يتحدثون فيما بينهم عن ركود السوق ، بينما كان البعض الآخر يمدح ويثني على فريق المنتخب الوطني في مباراته الأخيرة … بينما همس أحد حاملي التابوت في أذن صاحبه :
– انظر إلى اليوم الذي اختاره صاحبنا ليموت فيه !!… كانت تصرفاته معكوسة على الدوام في حياته … لقد ابتللنا من الرأس حتى أخمص القدمين يا أخي .
لاشك أن هناك خطأ ما … لاشك ان ما أسمعه ليس صحيحا … وإلا فهل من المعقول أن يتفوه أصدقائي الذين ضحيت كثيرا من أجلهم بمثل هذا الكلام ؟.
بعد قليل وصلنا إلى المقبرة … انزلوا التابوت ووضعوه على الأرض … رفعوا الغطاء … وامتدت الأيادي إلى جسدي الميت ورفعوه وأخرجوه من التابوت … ثم بدأوا ينزلونه في حفرة تجمعت بعض المياه في قعرها .
ومن مكاني الذي سجيت فيه حاولت أن أرى ما حولي … يا الهي !… أليس هذا هو القبر ؟.
لماذا لم يجل في خاطري حتى الآن أنني سأدخل فيه ؟…. لماذا لم أفكر في ذلك من قبل ؟.
لا أحد يسمع صرخاتي التي أحاول إطلاقها …لا أحد .
أهال أصدقائي التراب علي … كانوا كمن يتسابقون في هذا …
مرة أخرى بقيت وحدي في الظلام … بقيت في ظلام دامس …وبكل العجز الذي أحسست به … ومن أعماق قلبي بدأت أدعو بحرارة :
– يا رب !… يا رب أما من فرصة أخرى أمامي ؟! أعطني فرصة أخيرة … سأمتثل لجميع أوامرك … سأكون عبداً لك كما تريد … سأكون كما تريد لكي تجعل قبري روضة من رياض الجنة ..يا رب !
– صك أذني ذلك الصوت مرة أخرى وبحدة أكثر :
– لقد فات ذلك وانقضى .
كنت اسمع صوت التراب وهو يرتطم بالألواح التي تغطي تابوتي … كان كل ارتطام يدوي في أذني دوي الرعد … كان كل كياني يرتجف فزعا وهلعا .
وفي محاولة أخيرة ويائسة تململت من مكاني … وفتحت عيني … كنت في فراشي المريح في غرفتي …كان ذلك كابوسا مريعا … وكان صديقي الدكتور يحاول إيقاظي من الكابوس ويقول :
–لقد فات ذلك وانقضى … أنظر أنت بخير … كان كابوسا … انتهى وانقضى .
وببطء استعدلت في فراشي … كان كل جسمي غارقا في العرق … شعرت بأنني فقدت أرطالا من جسمي فجأة … كان المطر ينهمر في الخارج بشدة والبيت يهتز من صوت الرعد .
وبين النظرات المصوبة إلي من حولي في دهشة وفضول حاولت أن أستجمع قواي … همست في صوت خافت:
– حمدا لك يا رب !… حمدا لك بعدد ذرات كياني … لقد منحتني فرصة أخرى لكي أكون عبدا صالحا … حمدا لك وشكرا لك يا رب !.