الشهيد الحي –
حكايات غزَّاوية.. التصوير بالكلمة لا يقلُّ في براعته وقدرته على تجسيد الحدث وإلهاب العاطفة عن الكاميرا ذاتها. كذلك لا يقلُّ دور الكلمة في المعركة عن الرصاصة والصاروخ، وأزعم أنَّ أثرها أخطر وأكبر، خاصة إذا أُخرجت في قالب فني من شعرٍ أو قصة أو كاريكاتير وغيره. ودور الأديب والشاعر والقاصِّ والرسَّام والمصور وأمثالهم هو أن يتفاعل مع أحداث أمته، ويعبِّر عنها. وأفٍّ لأديب أو فنَّان ينتمي لهذه الأمة ثم لم يعش هولوكست غزة الحقيقي، ولم تجد صدى في إنتاجه!.
لابدَّ أن يقف المبدع في صفوف المقاومين وأن يرصد سير المعركة بعدسته الخاصة، ويصوِّر مواقف البطولة ومشاهدها المتلاحقة ولوحاتها الرائعة التي يرسمها الأبطال المقاومون والشهداء الذين يبذلون دماءهم، فداءً للملة والأمة وذبَّاً عن الأرض والعرض، وترسمها الأمهات اللائي يقدِّمن تضحيات تجلُّ عن الوصف، وتعجز الكلمات عن تجسيدها.
– يَمَّه… يَمَّه…. محمد مات.. طخوه[2] اليهود!. لم أصدِّق أذني،…. حتى عندما أحضروا جثته لم أصدِّق عينيّ!…
صرختُ بأعلى صوتي: – هذا ليس محمداً… أريد محمداً.. أحضروا لي ابني!…. محمد لم يمت!. لم يكن يبدو من ملامحه شيء… والقذيفة التي أصابت سيارته مسحت وجهه تماماً… لا عيون ولا أنف ولا شيء…. هكذا وصفه الطبيب الذي أسعفه. لم يسمحوا لي برؤيته… استجبت لهم مرغمة، وقلبي يحترق…. ارتميت فوقه، واحتضنته، وقبلت الأكفان!!.
• • • •
غصَّت دار أمِّ محمد بالمعزِّين، من الرجال والنساء والأطفال. مجالس العزاء التي تستمر ثلاثة أيام بلياليها، تتحول هنا في " غزة " إلى مهرجانات إيمانية وإعلامية، تقوم بدور التعبئة الروحية والدينية للمقاومين، وتُضَمِّدُ الجراح، وتزرع الأمل، وترسخ الثقة بالله واليقين بالوعد الحق. وربَّ ضارَّةٍ نافعة، فهي مهرجانات حافلة متواصلة زماناً ومكاناً، لا تكاد تنقطع، إذ يسقط في كل يوم وفي كل حارة شهيدٌ بل شهداء في مقارعة المحتل أو بغدر الباغي.
لم تكن مجالس عزاء بالمعنى التقليدي، حتى التعزية والمواساة كانت تمتزج بالتهنئة والغبطة على نعمة الشهادة التي ظفر بها الشهيد. الشهادة حياة لا موت، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون. بطولاتٌ تروى وملاحم يتغنى بها الغزَّاويون، تؤجج الحماس، وتبشِّر بالنصر، وتجعل من الشهادة أمنية كل شاب وطفل وامرأة…. أمنية يحرص عليها ولا يفرُّ منها… ليس موتاً بل حياة حقيقية… ليس انتحاراً كما يزعمون، ليفتُّوا في عضد المقاومين… ومتى كان القتل في ساح الوغى، دفاعاً عن الأرض والعرض انتحاراًً؟.
أم أحمد، إحدى النسوة اللائي قدِمن لتعزية أم الشهيد ومواساتها على الرغم من بعد المنزل… هي لا تعرفها معرفة قوية، ولا ولدها، لكن مجالس العزاء كانت تضمُّ القريب والبعيد، ويؤمها جميع الناس، وحدتهم المصيبة، يواسي بعضهم بعضاً، والمعزِّي لا يلبث أن يصير معزَّى، وهكذا دواليك يطوف الموت في غزة من دار إلى دار، وفي كل يوم يقام مجلس للعزاء جديد أو قل نادٍ إيماني: – لا تخافي ولا تحزني… ولدك مضى إلى ربه…. نحسبه شهيداً، ونرجو له الجنة!. – الحمد لله الذي شرَّفني باستشهاده، وأرجو الله أن يجمعني به في مستقر رحمته. كلمات الخنساء نفسها تحفظها كل الأمهات هنا، ويقلنها كلما سقط لهن شهيد… ربما تختلف العبارة لكن المعنى واحد.
– كل واحدة منا أمُّ شهيد؛ إما شهيدٌ قضى نحبه وإما شهيدٌ ينتظر، ولا ندري على من تعدو المنية أولاً… أبناؤنا كلهم شهداء.. أحياءٌ شهداءُ، وشهداءُ أحياءٌ!. كلماتٌ صورت الواقع بدقة، وليس فيها شيء من المبالغة، وإن قصدت أم أحمد فيها المواساة!.
– وأنتِ، كيف حال ابنك؟. سمعت أنه جريح شفاه الله. نعم هو كذلك، ويرقد في مستشفى الوفاء، لكننا – يا حسرتى – لا نراه ولا نسمع صوته.
– ألا يسمحون لكم بزيارته؟.
– بلى، نزوره، لكنَّه مغيَّبٌ عما حوله، حتى إنني لم أر وجهه، لكثرة ما غطَّاه من القماش والضماد الذي يلفه، غير أنه – ولله الحمد – بدأ يسترد وعيه وعافيته شيئاً فشيئاً.
– نرجو له العافية والخروج بالسلامة قريباً بإذن الله.
لم تكن تدري أم محمد أنها تدعو لولدها محمد، وترجو خروج محمد… ذاك الجريح الذي يرقد في مستشفى الوفاء منذ ثلاثة أيام، ودخلها باسم أحمد إذ طمست جريمة الصهاينة كل معالم الأجساد، فلا تكاد تميز بين جسدٍ وآخر!. إلا إن الأم المفجوعة كانت أحياناً تدور في نفسها ظنون ووساوس، وهي ما تزال تذكر الكلمات التي جرى بها لسانها، عندما دخلت على جثة ابنها أو من حسبته ابنها، وكانت تولول وتصرخ بحرقة: هذا ليس محمداً… أريد محمداً.. أحضروا لي ابني…. محمد لم يمت!.
نفي الموت، عبارة تقولها كل أم، وتتمناها كل أم لكن أم محمد قالتها وما يزال قلبها حتى اللحظة يحس أن هذا الذي ودعته منذ ثلاث ليال ليس ابنها…. ولا تدري ما أسباب هذا الشك الذي يتردد في صدرها؟. هل هو تعويض نفسي، وتخفيف من حجم المصيبة؟… هل هو مجرد هروب من مواجهة الواقع والرغبة في عدم التصديق!؟…. هل هي مجرد عملية استحياء لميت عزيز على قلبها، لا تريد التصديق بموته؟. أم أنه شكٌ في محله؟!. – (قلبي يقول لي إن محمداً لم يمت!). عبارة أسرَّت بها إلى زوجها.
– استغفري ربك… الموت حق!. – أنا مؤمنة أن الموت حق، لكن ابنك ما يزال حيَّاً!. – نعم ابني حيٌّ لأنه شهيد، والشهداء أحياء لا يموتون!. – أنا مؤمنة بهذا، لكن ابني لم يمت!. (مصيبتها كبيرة… الله يصبرها!. لا حول ولا قوة إلا بالله). قالها في سرِّه بلوعة شديدة… ظنها أبو محمد تهذي من فرط حزنها… واغرورقت عيناه هو الآخر بالدموع.
• • • •
وهناك في مستشفى الوفاء، بدأ محمد يفيق قليلاً من غيبوبته، ويحس بما حوله.. ويشعر بالناس المحيطين به..
– (يمكن القول إنَّ أحمد تجاوز مرحلة الخطر).
… عبارة سمعها عوَّادُه من الطبيب المشرف، ولامست أذن أم أحمد، فامتلأت فرحاً، ولسانها يلهج بالحمد والشكر لله.
"محـمد " ما يزال عاجزاً عن الحركة والكلام إلا إنه يسمع ويحس بمن حوله، ويفهم كلامهم…لكنه لم يتعرف على أحدٍ منهم، حتى هذه المرأة التي تبكي وتنحب ولا يرقأ لها دمع، لا يعرفها!… من تكون هذه يا ترى؟ وأين أبوه وأمه وعادل وفايز ومريم وسعدية؟. أين أهله وأقاربه؟. حتى أصدقاؤه الحميمون لا يسمع صوت أحد منهم!. ثمَّ من أحمد هذا؟.لماذا يدعونني أحمد؟…. أنا محمد!. أنا محمد!. لكن لا أحد يسمع احتجاجه أو يدري بانزعاجه الذي كان يبدو على قسمات وجهه… لا يسمع منه عوَّاده إلا أنات التوجع وزفرات الألم المبرح…
أم أحمد مالت إلى زوجها، وهمست في أذنه كلمات لم تتمها، ولم يتبين مرادها… قطعتها عن قصد، وكممت فاها بيدها، وآثرت الصمت، وخافت أن تبوح بما يجول في خاطرها، فيهرب منها الحلم، ويضيع الأمل، وتخسر ابنها وفلذة كبدها، وجاهدت نفسها في دفع هذه الوساوس التي تغزوها، وتلحُّ عليها.
دخل الطبيب عليهم، ليبشرهم بأنهم سيرون وجه أحمد في صبيحة يوم الغد…
• • • •
رابَطتْ أم أحمد في فناء المستشفى، وأبت أن تبيت في دارها في تلك الليلة التي مرت عليها كأنها شهر، ولو قلت سنة، لم تبالغ!. لم يغمض لها جفن، ولم يرقأ لها دمع، وكأنها كانت على موعد مع الصدمة!.
لم يتحرك لها قلبه، ولم يعرفها.. ولم يهش ولم يبش…كان جامداً بارداً، يرنو ببصره إليها باستغراب ودهشة، وكأنه يسأل: من تكون هذه المرأة؟. وماذا تريد مني؟.
ما أشدها من صدمة، لا يحتملها جبل، فما بالك بقلب أمٍّ!.
كاد قلبها يتوقف… وقفت مشدوهة… تسمَّرت في مكانها… يبست يداها على وجهه… هي أيضاً أنكرته.. يا للهول.. صرخت: – وامصيبتي.. هذا ليس ابني… واأسفاه على أحمد!.. أين أحمد؟.. أين ولدي؟..
وفوجئت المرأة بالشاب الجريح الذي لا تعرفه، يخاطبها برقة وحنان، وقد اغرورقت عيناه بالدموع حزناً على هذه الأم الثكلى: – لا تحزني يا أماه… أنا ابنك.. اعتبريني مكانه!.
لم تتمالك نفسها، وقالت: – أنت ابني..أنت الشهيد الحي… كلُّ أولاد غزة هم أبنائي!.
• • • •
هذه هي "محرقة غزة" صهرت الأمهات، فوحدت مشاعرهن، حتى أصبح كلُّ طفل وشاب وصبية من أبناء فلسطين هم أبناؤها وعيالها، لا فرق بين واحد وآخر. ــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] قصة محمد حجازي وأحمد أبو سلامة، وهي قصة حقيقية، جرت أحداثها في محرقة غزة الأخيرة [2] طخ الشيءَ يَطُخُّه طخّاً أَلقاه من يده فأَبعَد والمِطَخَّةُ خشبة يُحدَّد أَحد طرفيها ويلعب بها الصبيان [لسان العرب – طخخ ].
|