التصنيفات
قصص قصيرة

عندما يستحم القمر..

~*¤ô§ô¤*~(عِنْدَمَــا يَسْتَحِــمُّ القَمَــرْ~*¤ô§ô¤*~(

اختبأ القَمَرُ خَلفَ سَحائِبِ السّماءِ البيْضاء, واخْتَبأَت مَعَهُ صَديقاتُهُ النّجماتُ إيذاناً مِنها بأنّ الشّتاءَ قدْ أقبَلَت طَلائِعُه.
فَبـاتَت الرّياحُ تَلعَبُ بِسَعادَةٍ في أرْجاءِ المِنطقةِ المُدلَهِمّة.
و ها أنا ذي أستَعِدّ لأُمسيَتي التّي لا تنسى على هذا الكُرسيّ المُتحَرّك.
لكن, ويْحَكَ يا قَمَرْ.. ألنْ تُشارِكني ليْلَةَ ذكرى موْلِدي العاشِرِ و عَزائِي..؟!

أوه.. لحظة ..ماذا أسمَع في الخارج؟!
إنهُ.. المطَر.. نعم.. السّماء تُمطِر..!
سبحان الله..ما أروعَكَ يا مطرْ .. عِندما تهْطُلُ بخُفوتٍ و تُسكِتُ ثوَرانَ الرّياح..
هــههه تبدو كاللّص في هدوئِكَ .
لحظــة.. ألهذا السّبب اختبأت يا قمرْ؟!
ليت النّاس يعْرِفون لماذا.. أليسَ كذلكَ يا وَسيم؟!

آآآهٍ يا وَسيم ..كُلّما ذكَرتُ اسمَكَ على شَفَتي أو في لِسانِ حالي,تهْطُلُ دَموعي بِرويّةٍ ,تماماً كما تنهَمِرُ الدّيمةُ الوطفاء.
كأنها تروي قبرَ الذّكرى الذي حُفِرَ قبل سنتيْن.
نعم..قبلَ سَنتيْن,وكأنَها دَقيقَتين,كانت نَكبَتي التي لم تَزَل لواعِجها متَصلة بــقلْبي حتّى السّاعة.!
أتَذكّرُ في تلكَ الّليلةِ التي كُنتَ تلعَبُ فيها على الأُرجوحَةِ في بهوِ بيتِنا..
بِوجْهِكَ ذي الصّفحةِ البيضاءَ أبداً,وَ عُيونُكَ العَسَليّة وَ شعْرُكَ البنيّ الذي يلهو مع النّسائِمِ بانسِيابيّةٍ..
و أنتَ ترقُبُ القمَرَ البدريّ ..
بينما وقفتُ أهزُّكَ مُنتَظِرةً دوري في الرّكوب..
عِندما نادتْ عليكَ أمي كي تسْتَحمّ,ولكنّكَ كنت تردّ عليها ببراءَةٍ و ثقةٍ عارمتين غير مكترثٍ لشيء:عِندَما يَستَحم القَمَرُ..سأستَحِمّ..!
لا أدري من أينَ أتى رأسُكَ بتلكَ الفِكرَة,فمُنذُ متى يَستَحمّ القمَرُ يا وسيم؟!

الذي استغْربتُ منهُ هوَ ردّةُ فعلِ أمّنا التي جارتكَ بأفكارِكَ و قالت: القمَرُ لنْ يستَحمَّ الليْلةً لأنّهُ استحمّ البارِحةَ و لمْ يُوسّخ ملابِسَهُ اليومَ عِندما لعبَ بالدّحلِ مع يَزَن مِثلُك.!
فردَدْتَ عليها بِدَهاء: آها, أذن.. القمرُ استحمّ البارِحة و بلّلَ سِتارةَ الغيُومِ ,فَعَصَرتْها أَمُهُ لِتُسْقِطَ المَطرَ علينا.!
..:أصلاً القمرُ كبيرٌ و يستَحمّ لوحدِهِ بدونِ أمّه , والآن هيا انهض كفاكَ مماطلة إنه دوري..
"رددتُ عليكْ"
فقلت لي بتملّق و مغايظة: ولكنّني كبيرٌ ..ولن أنهَضَ عن الأرجوحة..

"أذكُرُ أننا تشاجرْنا ليلتها لأنّكَ رفضتَ النّهوضَ كعادتِك,بحُجّةِ أنّكَ تنتَظرُ القمَرَ حتى يستحم,ولكنكَ كنتَ تعْرِفُ أنّه لا يستحم و إنّما الغيومُ تُمطِر..!
و في صباحِ اليْومِ التّالي ,رفضْتَ أن تغسِلَ وجهَكَ إلا عِندما ترى الشّمسَ و هيَ تُغسّلُ وجهها..
فقلتُ لكَ بثقةِ الكبارِ عندَما يتحَدّثون:أصلاً..الشّمسُ من نارٍ ولا تغسّل وجهها يا صَغيري..
ولكنّك أجبتني بحجج الصّغار :لكنّها إذا لمْ تَغسّل وجهها حين تستيقظْ من النوّم فلن يذهب عنها الشّيطان,و ستبقى بشعة طوال اليوم ….هكذا قالت أمي.

فأجبتُك:ولكنّها إذا غسّلت وجهها ستنطفئُ يا أحمق,ثم هذه الشّمس لا يدين لها كي تغسّل بهما.
فشهقت و قلت بنشوة المنتصر الظافر:نعم..تنطفئ لأنها من نار,والنّارُ تنطفئ بالماء,لهذا قالت لكِ أمي عندما أصابتكِ الحمّى الأسبوع الماضي أن عليكِ غسل وجهكِ بالماء حتى تنطفئ ناره..

فسمِعتْ أمّي كلامنا و قالت:ما شاء الله,يا لجمال الأطفال عندما يتناقشون كالكبار..
ثم قالت لك بصوتها الرخيم:خيالكَ واسعٌ يا صغيري,لكن إعلم أنّ الشّمس لا تغسّل وجهها,وليسَ كلّ ما في الكوْنِ يستَحمّ و يلعبُ بالدّحلِ و أعوادِ البوظةِ مثلك!
فرددتَ عليها بِعنادِ,مستنكِراً ما تقول:ولكنني أرى الشّمسَ تلعبُ مع الغُيوم,والعصافيرُ تلعبُ الغمّيضة مع قطط المخيّم,والأشجارُ تلعبُ مع الهواء,والهواء يلعبُ مع رئاتنا فيبدّلُ الأكجسين بالكبرون..!
فضحكتُ أنا و أمي ضحكة مطوّلة,خاصة عندما تفوّهتَ بجُملتِكَ الأخيرة.
ثم قلتُ و دموعي قد نزلت من شدّة الضّحك:الأكسجينُ يتبدّلُ مع ثاني أكسيد الكربون,وليس الكبرون..
لتقول أمي بعتابٍ مصطنع:جنـى,طفلُ الخمسِ سنواتٍ كيف سيفهمُ دروسَ الصّف الثالث؟!
لم يرُق لكَ استصغار أمي لسنّك,فقلت بحماس:أنا كبيرٌو أفهمُ كلّ شيء ,وسأصبحُ عالماً كبيــــراً..أكبر من البيت..
و ستجري جنى معي المقابلات,لأنها ستكون صحفيّة مشهورة و مُهمّة!
فهززت رأسي بإيجابٍ وقلت لأمي: أنا سأصبحُ صحفيّة أجري مقابلاتٍ مع النّاس كلّهم و سأصوّرهم و أنشرُ صورهم في الصّحيفة.. فتابعتَ بشغفٍ معقّباً:أجل,ستجرين مقابلة مع القمر لأنه لا يستحمّ في الصيف,والشمس,و قطة المخيّم المسكينة مقلوعة العين,و تلك القطّة السوداء الشّريرة التي قطع ذيلها عماد و هو يلاحقها. فردَدْتُ و أردفت:أجل,سأجري مقابلة مع الأشرار الذين يغلقون المعبر ولا يسمحون لجدّتي بالخروج منه لتعمل العمليّة..و الذين لا يسمحون للدواءِ أن يمرَ حتى يشربه يزن المريض..
ولكنني صمتّ ثانية وقلت بخيبةِ أمل:أخاف أن يطلقون النار علي ..

فقفزتَ من مكانك وقلت :لا تخافي,سيأتي سوبرمان و يساعدك..ويلقن كل اليهود درسا لاينسوه.
لكنني أجبتك:لا ليس سوبرمان يا أحمق ,بل أبي ,أنسيت أنّه يغيبُ كثيراً عن البيتِ لأنه يجاهد ويطلق النار على اليهود كي يحرّر الأقصى؟!

فقفزتَ ثانية و قلت:آآه صحيح,أبي أقوى من سوبر مان,ولكنّه لا يطير,ولكن مع ذلك أنا سأصبح أقوى من أبي أصلاً و سأصنع مقاتلة كاندام كي أهزم كلّ اليهود و أحرر الأقصى..
كانت أمّي تُحملِقُ بنا باستغرابٍ واستعجاب كبيرين,بينما انفرجت شفتاها ببسمةٍ تشفَ في أعطافها مخائلَ السّعادةِ والفخرِ بوَلَديْها.!

لم تكنْ تعلمُ بأنّ أحلامنا أكبر من الدّنيا,وأن خيالاتنا و أمانينا أوسعُ من الكون,
نعم..حَلمنا..و حلّقنا بأفكارنا في الأعالي,وعانقنا الأفق الضّاحكَ إلى المالانهاية..

لكن..ليس كلّ البشرِ يرضى أن يحلُمَ غيره,ولا أن يضحَكَ و يرسُم خيالاته و مَرحه,ليس كلّ البشَرِ يرتاحُ إذا رأى غيره على أرضهِ سعيداً..
كمــا ليس لأيّ من البشر أن يحدّ شيئاً من ذلك!

أذكر في تلكَ الأيامِ القليلات التي أتت,أننا غدونا نسمعُ أصوات طائِراتٍ تحوم في السّماء,وأصوات انفجاراتٍ و دويّ مدافع,كان النّاس في حالةٍ من الذّعرِ و الرعب الشّديديْنِ يعيشون,و أغلقت مدرّستي و كلّ المحلّات..
وانفتحت على مِصراعيْها أبواب الموتِ المحتّم..!
هناك..أصبحنا نعيش فيما يُسمّى:الحربُ على غزّة.!

لكم خفنا في تلكَ الأيام,لم تفارق آذاننا أصواتُ الانفجاراتِ و هطولُ الصّواريخ والقذائف,وكم خفنا على أبينا الذي لم نعرف عنهُ شيئاً و لم نرَهُ منذ أسبوع!
و كم خفنا عندما رأينا مشاهدَ الحربِ على التّلفاز,جنودُ دفاعٍ مدنيّ يسبحون في بركةٍ من دمائهم,لا تعرفُ لهم رأساً ولا قدمَاً..
و بيوتٌ مقصوفةٌ على ساكنيها,وأجسادٌ مَرّغت بالرّكام,لتصبح جزءً من حطامِ البيتِ المهدّم..

أطفالٌ,نساءٌ شيوخٌ,شبابٌ و شابّاتٌ..كلّهم استشهِدوا…
سألنا أمي عن معنى كلمةِ استشهدوا,فقالت بصوتها المتحشرج و دموعها التي تزخرف وجنتيها:لقد ذَهبوا للقاءِ ربّهم,ذهبوا إلى الجنّة..
فكنتَ تسألها:ألا يتألمون عندما يقَعُ السّقفُ عليهِم أو تقصِفَهم الطائرة؟!
فردّت أمي:لا…
كنتَ تتوقُ لتعرف ما شعورهم عندما يستشهدون..

ولم يمضِ يوميْن على بدء الحرب,حتى جاءت تلك الليلة الليلاء ,التي كانت مقبرةَ كلّ شيء..
كنّا_ كالعادة _ جالسين مع أمي ,التي احتضنتنا بقوّة عندما كنا نعيش أكثر ليالي الرّعب التي رأتها عيوننا..
السماء كانت مسرحاً للطائرات الحربية ,التي لم تتعب من رمي صواريخها باتجاه بيوتنا..
كنّا نرقبُ الأجواء بحذرٍ شديد..و نرتعد عند سماع صاروخٍ يتفجّر..
ولكنّ هذا لم يمنعك من أن تقول وأنت ترقب السّماء:الغيوم خبأت القمر..ترى؟هل سيستحم الآن؟!
ألا يعرف أن الوقت غير مناسبٍ لذلك؟!
عليهِ أن يضيء السّماء لعلّ نوره يحلّ محلّ الكهرباء المقطوعة..حتى يتمكّن أبي من القتال جيّداً..

"ما أوسع قلبك يا أخي.."

بعد لحظاتٍ شعرنا بالخطرِ يتقدّم بجحافلهِ نحونا..
فنهضت أمي على عجلٍ,وقالت لنا بنبرةٍ كساها وشاح الخوف:إن كان البيت يحمينا من حرّ الشّمس و برد الشّتاء,فإنه لن يحمينا من تلك القذائف,هيّا لنغادره.
هَممنا بالرحيلِ عن بيتنا ,والخروجِ إلى الشّارع,عندما استوقفتنا أمي كي تحضر غطاء رأسها من غرفةِ النّوم..
و أوصتنا أن نبقى معاًً..
وما هي إلا ثانيتين,حتى سمعنا صوت صاروخٍ ما انهال بقوّة ليضرب الناحية الشمالية من بيتنا..حيث كانت أمي..
فاهتزّ البيت بشكل رهيب و أضيء مع ذلك الصّاروخ..
لا أذكر ما الذي حصل بالضبط,سوى أنني صرخت بأعلى صوتي قائلة:وسيــــــــــــــم
عندما كاد الجدار أن يقع فوقك,فدفعتكَ من طريقهِ ليقع عليّ أنا..
وبعدها سمعت صوت صاروخ آخر يسقط بالقرب منّا..
أغميَ عليّ عشرُ دقائق,لأفتح عينيّ بصعوبةٍ بالغةٍ فقد شعرت أن كلّ عظمة من عظامي قد كُسرت..بينما لم أكن أشعر بقدماي..
نظرت حولي بصعوبة ..وإذ بالنيران تشتعل في كلّ مكان,وأصواتُ الناسِ تصرخُ في الأرجاء..والمطرُ ينهمر بغزارة..
فأصبحت أنادي بخفوت:أمي..أخي..!
ولكن..بالقرب منّي ..
شيءٌ ما كان يشتعل بشدّة و تسل منه الدّمــاء..و قطرات الماء تنهمرُ عليهِ محاولةً إطفاءه أو إيقاظ روح الحياة فيه..

دقّقتُ النّظر فيه جيّداً…
و إذ به..
وإذ به………….

أنت..
نعم…
أنت يا وسيــــــــــــم…

آهٍ يا أخي..آهٍ يا وسيم..قتلوك..قتلوا جسَدكَ الطاهرَ..و روحَك البريئة النّقيّة..قتلوا بسمتَك و ضحكتك الرّنانة..قتلوا حماستكَ و أحلامك العسجديّة..
قتلوا طفولتك..و أمانيك العليّة..
حرقوا جسدك الغضّ الصّغير..أشعلوه بقنبلة فوسفوريّة..أكلتك..و نهشت لحمك…

انهض يا أخي..ألا ترى بأن القمر يستحم الآن..
إني أجزم أنها دموعه..بل دموع كلّ ذرّة من ذرّات الكون..انهمرت على جسدك تحاول إنعاشه..تحاول تحريكه..كي تنهض..و تكمل حياتك..
كانت تنتظرك كي تفكّ لو القليل من أسرارها..

أخي سوف تبكي عليك العيون**وتسأل عنك دموع المئين
فإن جف دمعي سيبكي الغمام** ويُرفع قبرك بالياسمين آهٍ يا أمــي..
أنتِ أيضاً..قتلوكِ..قتلوا حضنكِ الدافئ..قتلوا لمستك الحنونة..قتلوا عطفكِ و عطائك..قتلوا بسمة أيامي..و مرهم آلامي..
و قتلوا أخي الصّغير الذي ألقي مضغة في أحشائك..!
قتلوا بيتنا الصّغير..قتلوا أرجوحتنا..وقتلوا يزن..و عماد..و جارنا أبو أحمد وعائلته..و قتلوا القطط و العصافير..و قتلوا الضّحكات..
قتلوا الطفولة و الكهولة…
قتلوا الأرض المكلومة..!

وسيم..كنت تريد أن تعرف بماذا يشعرُ الشّهداء..فها قد عرفتَ الآن..
ليتكما أخذتماني معكما إلى الجنّة..لماذا تركتماني وحيدة؟!
لماذا؟!
ليت قدماي أخذتا معها باقي جسدي..
تعالوا و انظروا إليّ..لم يكتفوا من قتلكم..فقتلوا قدماي..
بُترتا حتى منتصف فخذتيّ..
أولا يكتفون من التفنّن بالعذاب و التعذيب؟
أولا يكتفون من حرمي..من كلّ شيء؟!
أولا يكتفون من حرماني من أملي الوحيد الباقي..من أبي؟!
آآآه..
عزائي الوحيد هو أنكم شهداء في حرب الفرقان..
صحيحٌ أنني أحتفل اليوم بذكرى مولدي في نادي الطفل مع أطفالٍ منكوبون أمثالي..
إلا أن فرحتي بدون شكٍّ هي يوم شهادتي..
ياربي..أعرف أنك شرعت عيدين للمسلمين فقط..ولكنك تعلم بأننا لا ننوي إلا أن نتذكّر أيامَ فرحتِنا المدفونةِ في ركامِ الحرب..
و نُرثي طفولتَنا التي طوتها مُحدثات الأيامْ..

يا ربي..أعنّي على تحقيق أحلامي و أحلام أخي ..
يا ربي اغفر لأمي و أبي و أخي و يزن و عماد و الجيران..وكلّ الناس..وارحمهم..
اللهم آمين..

تمّت بحمدِ الله..

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.