كاتب وأديب سوري.
ليتَ شعري من أين جاءتنا هذه الجموعُ الغفيرة؟!
قال قائد المدينة هذا الكلام وقد علَتْ وجهَه سحابة سوداء تخفي وراءها من الهموم ما تتهاوى الجبالُ تحت وطأتها.
كانت مدينة هذا القائد مدينةً عظيمةً يتعايشُ أهلها فيما بينهم.. وكان لهذه المدينة طبيعة خلابة، فقد كانت الأشجار تغطّي مساحاتٍ كبيرة من أراضيها، وفيها أنواع وصنوف كثيرة من الأزهار التي تجتذب النحل إليها.. فكثُرَ العسل لدى أهل المدينة حتى صار مصدرَ رزقٍ لأبنائها، فما من رب أسرةٍ إلا وله عدد من المناحل التي تدرُّ الرزقَ عليه وعلى أسرته.
وقد اشتُهر عسلُ هذه المدينة بجودته، فصار أهل المدن الأخرى يقطعون إليها أشواطًا بعيدةً لشراء هذا العسل الفاخر.
كلُّ ذلك كان يدور في ذهن هذا القائد وهو ينظر إلى جموع العدو المخيِّمة حول أسوار مدينته، والمحيطة بها كما يحيط السِّوار بالمعصم.
وقد شحَّت مؤنُ الجيش فخاف هذا القائد من أن تتضعضع هممُ الجنود أمام أعدائهم، فكان يبحث عن حلٍّ لهذه المعضلة قبل أن يفوت الأوان.
وبينما هو في غمرةِ أحزانه، لاحت له بارقةُ أملٍ من بين فُرَج الأحزان، فأشرق وجهُه لهذا الخاطر الذي ألمَّ به، ولم يُضِعْ لحظةً من زمنٍ. فقد أمرَ رجالَه أن يَجمعوا له أهل المدينة في صعيدٍ واحد لكي يُخبرهم بخطته التي ارتآها، وما أسرعَ ما اجتمع أهل المدينة لكي يسمعوا هذا الرأي الذي سيطلُع عليهم به قائدُهم المخضرم…
فوقف القائد على تلةٍ صغيرة وقال لأهل مدينته:
– إنكم ترون ما قد ألمَّ بنا من إحاطة عدوّنا بمدينتنا، وإني قد رأيتُ رأيًا، فأخبروني هل أنتم مُطيعيَّ فيما سأقوله؟!
فقالوا بصوتٍ واحد:
– نعمْ يا سيدنا، فهاتِ ما عندك فكلُّنا آذانٌ مُصغية.
– إن جنود المدينة يبذلون ما بوسعهم في سبيل حماية ترابها من أنْ تدنِّسه نعالُ العدو، وإن مؤنهم قد كادت تفنى، فلا أقلَّ من أن نعطيهم ما يسدّ عَوَزَهم من طعام وسلاح.
فصاح الجميع صيحة واحدة:
– مُرْنا بما شئت فستجدنا من المطيعين.
– إنكم أيضًا بحاجة للمؤن، لأن مدينتنا محاصرة، وأنا لن أطلب من كل رب أسرةٍ أكثرَ من إناءٍ من العسل، فلا يوجد بيت في المدينة إلا وعنده من العسل الشيء الكثير، فإذا اجتمع لدينا كمية كافية، بعناها واشترينا بثمنها طعامًا وسلاحًا للجنود. وقد نصبْنا ها هنا خزَّانًا كبيرًا ليضع كلٌّ منكم العسل بنفسه دون رقيبٍ عليه. فإني واثق من أمانتكم يا أبناء مدينتي الغرَّاء…
وفي هذه الأثناء كان هناك رجل يقول في نفسه "ومَن الذي يراني إن وضعتُ مكانَ العسل ماءً… إن أولادي أحوجُ إلى ثمن هذا العسل من الجنود، ثم إن هذه الكمية القليلة من الماء لن تؤثِّر في هذا الخزّان الكبير المملوء عسلاً، إنه ليس إلا نقطة في بحر، ولذلك فلن أفرِّط بهذا العسل وأنا في هذه الحالة من الحاجة وحصار الأعداء".
وذهب هذا الرجل وتعمَّد أن يحمل إناءه قبل غروب الشمس بقليل، كي يراه الناس وهو يضع العسل، وفي الوقت ذاته كي لا يكتشف أحدٌ أمره… إذ إن الظلام بدأ ينزل فيلفُّ الكونَ بعباءته السوداء، ثم إن هذا الرجل حريصٌ على سمعته بين الناس، فكيف يفرِّط بهذا الشيء العظيم؟! وسكب هذا الرجل الماء في الخزّان الكبير وعاد إلى بيته فرحًا، لأنه حقق أكثر من غايةٍ في نفسه؛ فقد رآه كثيرٌ من أهل مدينته وهو يؤدي واجبه الوطني، كما أنه لم يخسر شيئًا من العسل.
ومضت عدة أيام على هذا الأمر، وكان قائد المدينة قد اتفق مع جماعةٍ من خارج المدينة كي يُوصلوا له كمية العسل هذه إلى برّ الأمان؛ لتؤخذ إلى المدن الأخرى ويشترى بثمنها الأسلحة والمؤن اللازمة.
وكان كل شيء مرتَّبًا له.. فقد بعث هذا القائد رسُله إلى من سيشتري هذا العسل منهم.
وجاء اليوم الموعود، ولم يعرف هذا القائد كيف مضى هذا اليوم، لأن الموعد مع تلك الجماعة كان بعد منتصف الليل.
وكان القائد يحاول أن يسابق الزمن تحسُّبًا من هجمةٍ قد أعدَّ لها جيش الأعداء كما بلَّغه جنودُه.
وحضرت تلك الجماعة، فأراد زعيمُهم التأكد من كمية العسل ونوعه، فطلب من القائد أن يفتح لهم غطاء ذلك الخزّان، فقال لهم "على الرّحب والسّعة، فأنا موقنٌ أن عسل مدينتنا سينال حظوةً لديكم"… اقترب القائد من خزّان العسل برفقة زعيم الجماعة… ولكنه حين فتح غطاء الخزّان وقف مشدوهًا ولم ينبِسْ ببنت شفة، شرد عن العالم الخارجي وغرق في شرود… ولكنه استيقظ على صوت جنوده… يا سيدي… يا سيدي ماذا دهاك؟! فظل صامتًا دون حراك. فاقترب عددٌ من الجنود ومن رجال تلك الجماعة إلى فم الخزّان فلم يكن حالهم بأحسن من حال القائد… فقد كان الخزّان مملوءًا ماءً.
وإذا بشعورِ ذلك الرجل الذي وضع ماءً بدل العسل كان سائدًا لدى سكان المدينة كلهم… فقد ألقى كل واحدٍ منهم المسؤوليةَ عن عاتقه اتكالاً على حَمْل الآخرين لها، ولكنْ لم يحمل أحدٌ منهم تلك الأمانة فأفلتتْ من يدهم جميعًا.
ولم يمض أيامٌ على تلك الليلة حتى شدد العدو حصاره على المدينة، ولم يكنْ لدى الجنود ما يكفيهم لصد هجماته… وتداعتْ أسوار المدينة أمام ضربات العدو، وسقطت بعد مقاومةٍ يسيرة… فدخلها العدو ولم يترك فيها حجرًا فوق حجر.
وتراكمتْ الجثث في شوارع المدينة، وكانت جثة ذلك الرجل بين تلك الجثث وهو متأبطٌ بيده قطعةً من إنائه المحطم تحت سنابك الخيل.
وانطوتْ صفحة من صفحات التاريخ عز فيها أناس أخلصوا لمبدئهم، وذلَّ أناس تخلَّوا عن أقل ما يطلبه منهم الواجبُ والعدل والحق.
.