قصة دستويفسْكي
ترجمة سمير كرم
نبذة عن الكاتب
ولد فيودور ميخايلوفيش دستويفسكي " أو دستوفسكي " في موسكو في الحادي عشر من نوفمبر 1821.
كان والده ميخائيل أندريفيتش طبيبا عسكريا وأمه ماريا فيودورفنا، وتسلسله الثاني من بين سبعة أبناء .
كان والده صارما ، وقد وضع للعائلة نظاما دقيقا أجبر الجميع الالتزام به ، أما أمه فامتازت برقتها وطيبة قلبها ,
وقد جرت العادة أن تنظم في بعض الليالي قراءات جماعية في آسرة دستويفسكي ، قرءوا فيها للمؤرخ كارامزين ولكتاب وشعراء منهم: درجافين , لاجشنيكوف, زاكوسكين, جوكوفسكي وبوشكين .
كان فيودور يقرأ الكتب التاريخية الجادة وكل ما تقع عليه يديه من روايات.
تسبب موت الكساندرا "أخت الكاتب الصغرى" بحزن شخصي عميق لفيودور.
في عام 1834 دخل الأخوين فيودور مدرسة جرماكا الواقعة في شارع باسمانوي , وبقي هناك حتى عام 1837 .
كتب كاجنوفسكي زميل فيودر في المدرسه عن تلك المرحلة من حياة الكاتب يقول : كان فيودور شاحب الوجه, جديا, وغارقا طول الوقت في التفكير , لم يكن يهتم باللعب , ويفضل استغلال أوقات الفراغ بقراءة الكتب وما تبقى من الوقت يصرفه في مناقشة طلاب الصفوف المتقدمة .
في شتاء عام 1837 توفيت والدة فيودور ميخايلوفيش وبوفاتها انتهت مرحلة الطفولة بالنسبة للكاتب, وبعد عام بالضبط يسافر بصحبة أخيه ميخائيل إلى سانت بيتربورغ للالتحاق بمعهد الهندسة العسكرية, لكن الحظ لم يحالف ميخائيل فرفض طلبه في الانتساب إلى المعهد لأسباب صحية مما أضطره لدخول المعهد الهندسي في رفلا.
لم تستهو الدراسة في المعهد الهندسي فيودور ميخايلوفيش وكذلك الخدمة بعد تخرجه ويرجع السبب إلى إن دخوله المعهد لم يكن برغبته الشخصية إنما نزولا عند رغبة والده الذي عاجلته المنية في أوائل صيف 1839 .
تأثر الكاتب كثيرا لموت والده , وكانت أول حالة لنوبة مرض الشقيقة التي لازمت الكاتب طيلة حياته مرتبطة بوفاة والده ، كما إنه كان يعاني مرض الصرع .
بعد انتهاء الكلية في عام 1843 تم فرز دستويفسكي للعمل في قسم الرسم الهندسي وبعد مضي عام يطرد من الخدمة ويتحقق له ما كان يتمناه . وفي أيار 1845 يكتب دستويفسكي أول أعماله ( الناس الفقراء ) وقد نالت شهرة والسعة
في بداية ربيع عام 1847 انتمى الكاتب إلى حلقة بتراشفسك , وكانت تناقش فيها مواضيع سياسية واجتماعية واقتصادية وقضايا أخرى. وأيد دستويفسكي إنهاء السلطة الملكية ورفع الرقابة عن الأدب, لكنه لم يشاطر الآخرين فكرة تغيير النظام باستخدام القوة.
لم يكن الكاتب من أتباع الاشتراكيين الحالمين وإنما انضم للحلقة بسبب خوفه من الانعزال عن الحياة الاجتماعية وليس للتآمر على سلطة القيصر.
لذا كان مستاء من السلطات لاعتقاله لسبب تافه وهو قراءته لبيلينسكي وغوغول ، ولم يؤثر اعتقاله الذي استمر تسعة أشهر على معنوياته ، بل دفعه ذلك إلى كتابة قصة البطل الصغير لكن المحكمة العسكرية وصفت ستويفسكي ب" أحد أخطر المجرمين "ووجهت له تهمة التآمر وحكمت عليه بالموت رميا بالرصاص . ثم استبدل حكم الاعدام وبأمر من القيصر نيكولاي الثاني بالسجن لمدة أربع سنوات مع الاعمال الشاقة فيُنقل الكاتب وهو مقيد بالسلاسل الثقيلة إلى سجن أومسك الرهيب في سيبيريا في رحلة طويلة تقارب الأسبوعين ودرجات حرارة تزيد عن الأربعين .
في كتابه ( ذكريات من بيت الموتى ) يقدم فيودور دستويفسكي وصفا دقيقا لحياة السجناء, ليست حياة القديسين والعشاق المعذبين بالطبع بل عتاة المجرمين القتلة وقطاعي الطرق الأشقياء وعديمي الضمائر, ومنهم الجنود الذين لم يتحملوا المعاملة القاسية في الخدمة فانتقموا من ضباطهم , وآخرون أبرياء ألصقت بهم جرائم لا علاقة لهم بها.
وقد عانى الكاتب في السجن من العزلة لأن السجناء كانوا يرون فيه شخصا ينتمي إلى عالم غير عالمهم فاستغل هذا الأمر في الكتابة على الرغم إنها كانت ممنوعة في السجن ، فكتب " دفاتر سيبيرية " التي ضمنها خواطره وأغاني السجناء وأمثال شعبية وغيرها , ولاحقا تتحول " دفاتر سيبيرية " إلى مصدر مهم لكتابه " ذكريات من بيت الموتى" .
في عام 1857 يتزوج الكاتب من ماريا دميتريفنا يسايفا, التي عرفها وأحبها منذ كانت متزوجة من رجل أخر, ولم يكن زواجهما ناجحا بسبب التباين الذي ظهر بينهما بعد الزواج , فتوفيت وتزوج بعدها أنا غريغورفنا .
كما إنه عاش حياة غير مستقرة بسبب حبه للمقامرة ومطاردة دائنيه له ..
وفاته
فارق دوستويفسكي الحياة عام 1881, فمشى في جنازته ثلاثون ألف شخص تقريباً, وعم الحزن روسيا كلها.
من أعماله
•الإخوة كارامازوف (Братья Карамазовы) وهي الرواية التي عرّبها الكاتب المصري محمود دياب ومثلت في فيلم مصري باسم (الأخوة الأعداء)و تعتبر هذه الرّواية من قبل الكثير قمّة عطاءات الكاتب، وهي الرّواية الأخيرة له حيث فارق الحياة بعدها.
•الجريمة والعقاب (Преступление и наказание) (روايه طويله -1866)(روايه طويله – 1881) عربت ومثلت في فيلم مصري باسم (سونيا والمجنون)
•مذلون مهانون (Униженные и оскорбленные) (روايه طويله – 1861)
•المساكين (Бедные люди) (روايه طويله – 1846)
•الشياطين (Бесы) (روايه طويله – 1872)
•الأبله (Идиот) (روايه طويله – 1867-1869)
•ذكريات من منزل الأموات (Записки из Мёртвого дома) (روايه – 1862)
•في قبوى (Записки из подполья) (روايه طويله – 1864)
•الليالى البيضاء (Белые ночи) (روايه قصيره – 1848)
•المقامر (Игрок) (روايه طويله – 1867)
•حلم العم (Дядюшкин сон) (روايه طويله – 1859)
•الزوج الأبدى(Вечный муж) (روايه طويله – 1870)
•التمساح (Крокодил) (قصه قصيره – 1865)
•المثل (قصه قصيره)
•قلب ضعيف (Слабое сердце) (قصه قصيره – 1848)
•شجرة عيد الميلاد والزواج (Елка и свадьба) (قصه قصيره – 1848)
•قصة أليمة (Скверный анекдот) (قصه قصيره – 1862)
•زوجة آخر ورجل تحت السرير (قصه قصيره)
•ذكريات شتاء عن مشاعر صيف (سرد قصصي – 1863)
•مذكرات كاتب (Дневник писателя) (سرد قصصي – 1873–1881)
—————
العرس وحفلة عيد الميلاد
فلذات أكبادنا ليسوا بضاعة نبيع ونشتري بها بل هم أمانة كلّفنا بحملها فلنكنْ بهم رحماء
عمق البحر
رأيت بالأمس حفلة عرس ، لكنْ لافالأحرى بي أن أنْبئك عن حفلة عيد الميلاد
حفل العرس كان رائعاً لقد أعجبني كثيراً إلا أنّ الحدث الآخر كان أروع إنني لا أعلم لماذا تذكرت حفل عيد الميلاد ذاك بينما كنت أرقب حفل العرس وإليك ما حدث .
في بداية العام الجديد منذ حوالي خمسة سنوات مضت من اليوم كنت ضيفاً في حفل لأطفال وكان السيد الذي دعاني شخصاً معروفاً في دوائر الأعمال فهو رجل ذا صلات كثيرة وشلة من الأصدقاء والدسائس ومن المفروض أنّ هذا الحفل كان للأطفال لا للآباء ليجتمعوا ويناقشوا المسائل الهامة وكنت غريباً هناك لم يكن لديّ مسائل أناقشها ولهذا كنت منطوياً على نفسي طوال المساء ، وهناك سيد آخر بدا مثلي فهو ليس له أصدقاء أو أقارب لكنْ تصادف أن يحضر هذا المظهر من الابتهاج العائلي وقد جذب انتباهي أكثر من أي إنسان آخر كان رجلاً طويلاً عطوفاً جادّاً حسن الملبس وواضح عليه أنّ ذهنه لم يكن حاضراً ولا مشغولاً بهذه الحفلة ففي اللحظة التي ابتعد فيها إلى ركن في مكان ما وقف مبتسماً وقطّب حاجبيه الأسوديْن الكثيفين ولم يكن يعرف شخصاً في هذا الحفل إلا مضيفه ومن الواضح إنه متضايق بصورة شديدة غير أنه قام بكل شجاعة حتى النهاية بدور إنسان مكتمل السعادة والسرور وقد علمت فيما بعد أنّ هذا السيد قدم من الضواحي وأنّ لديه بعض الأشغال الهامة المعقدة في العاصمة وأنه جاء بخطاب توصية لمضيفنا إلا إنه لم يعطه اهتماماً أبداً بل دعاه فحسْب إلى حفلة أطفاله من باب الأدب الشديد .
لم يلاعبْ أحداً الورق ولم يقدّمله أحد سيجارة ولم يدخلْ مع أحد في حوار ولذلك كان صاحبنا مضطرّاً لأنْ يلتزم الصمت طول المساء ، وإلى جانب السيد الذي كان يشترك على هذا النحو في اجتماع عائلة مضيفنا والد الأطفال الخمسة كان هناك شخص جذب انتباهي إلا إنّ هذا الآخر كان ذا طابع مختلف تماماً اسمه يوليان ماستاكوفتش يستطيع المرء منأول نظرة إليه أن يفهم أنه ضيف الشرف وإنه يقف من المضيف نفس الموقف الذي يقفه المضيف من السيد القادم من الضواحي .
كان المضيف والمضيفة يحيطانه بمظاهر التكريم فقد تفرغا له يملآن كأسه باستمرار ويتذللان إليه ويأتيان بضيوفهما ليقدّماهم إليه بينما لا يُقدّم هو إلى أحد وقد لاحظت أنّ دمعة لمعت في عين مضيفي حينما قال يوليان معلّقاً على الحفل إنه لم يقض وقتاً طيّباً كهذا الوقت .
ولقد أخافني بعض الشيء أن أظلّ في حضرة شخص كهذا ولذلك بعد أن ألْقيت نظرة بهيجة على الأطفال انسحبت إلى غرفة جلوس صغيرة كانت منعزلة تماماً والتمست الأمان في تكعيبة أزهار المضيفة التي كانت تشغل نصف مساحة الغرفة تقريباً .
كان الأطفال كلهم وسيمين بصورة عجيبة وقد رفضوا أن ينضّموا إلى الكبار رغم نصائح مربّياتهم وأمهاتهم فقد التهموا شجرة عيد الميلاد حتى آخر قطعة فيها في ثوان .
ولقد أعجبْت بصفة خاصة بصبي صغير داكن العينيْن مجعد الشعر كان منهمكاً بالتصويب إليّ ببندقيته الخشبية إلا أنّ أروعهم جميعاً كانت شقيقته فتاة في الحادية عشرة من عمرها حلوة كأنها كيوبيد منطوية كثيرة التفكير وشاحبة لها عينان كبيرتان مشغولتان بارزتان ولا بدّ أنّ الأطفال الآخرين أغاظوها ولهذا جاءت إلى غرفة الجلوس حيث كنت أنا وشغلت نفسها في ركْن بعروستها . أما والدها وهو صاحب أرض ثريّ كان يشار إليه من الضيوف باحترام ولقد دار الهمس بأنّ مبلغ ثلاثمائة ألف روبل قد دفعت لها مهراً ، حملقت خلفي لأنظر إلى الأشخاص الذين كانوا يبدون اهتماماً بهذا الموضوع فوقعت عينايْ على يوليان الذي كان ينصت إلى هذا الحديث التافه بدرجة معيّنة من الحدة ويداه معقودتان خلف ظهره ورأسه مائل قليلاً إلى جانب .
بعد ذلك لم أستطعْ إلا أن أعجب في حكمة مضيفي في توزيع هدايا الأطفال فقد أخذت الفتاة التي كانت قد نالت توّاً مهراً من ثلاثمائة ألف روبل عروسة فاخرة وبعد ذلك أخذت الهدايا تنخفض قيمتها تبعاً للنزول مراتب آباء كل من هؤلاء الأطفال المحظوظين وفي النهاية لم يعط آخر الأطفال إلا كتاباً للقصص يتكلم عن عظمة الطبيعة وليس فيه صور ولا حتى لوحة وكان هذا الطفل في حوالي العاشرة نحيفاً ، ضئيلاً ، وجهه مليء بالنّمش وأحمر الشعر كانت أمه وهي ارْملة فقيرة مربّية الأولاد في هذا البيت ولذلك كان الصبيّ خائفاً ذليلاً وقد ارتدى سترة من قماش رث . بعد أن تسلّم كتابه حام قريباً من الآخرين ولعبهم كان يريد أن يلعب معهم بلعبهم إلا إنه لم يجرؤ وكان من الواضح أنه أحسّ الآن بوضعه وفهم مكانته .
إنني مغرم جدّاً بمراقبة الأطفال إنّ استجاباتهم الأولى المستقلة للحياة شيّقة للغاية ، لاحظت الطفل الأحمر الشعر مفتوناً جدّاً بلعب الأطفال الآخرين الغالية وبتمثيلهم الذي كان يود بعمق أن يشارك فيه وقد صمم على أن يلعب لعبة صغيرة ما فابتسم وتقدّم نحو الأولاد وأعطى تفاحة ومنديل مليء بالطيّبات لولد سمين بل كان يسمح لولد آخر أن يركب على ظهره لمجرد ألا يبْعدوه عن تمثيلهم إلا أنّ واحداً من السخفاء ضربه بحدة ولم يجرؤْ الطفل على البكاء ثم ظهرت أمه المربّية وأمرته ألا يتدخل في لعبة الأطفال فانسحب إلى غرفة الجلوس حيث كانت الصبية قد ذهبت وسمحت له أن يشاركها في لعبها وبدأ الاثنان يلعبان بعروستها الغالية في انهماك كبير ، وكنت قد جلست تحت تكعيبة اللّبلاب حوالي نصف ساعة أستمع إلى الحوار الهادئ بين الصبي والصبية بينما كانا يلعبان بالعروسة حين دخل يولْيان الغرفة فجأة إذ أزعجه شجار عنيف بين الأطفال في البهو فاتخذ طريقه في هدوء إلى هنا ولقد لاحظت أنه كان يتحدث في حماس منذ دقيقة واحدة إلى والد عروسة المستقبل الثرية حول تدبير عمل ما لشخص آخر أما الآن فقد وقف منهمكاً في التفكير وبدا كما لو كان يعدّ شيئاً على أصابعه كان يهمس ثلاثمائة ثلاثمائة أحد عشر اثنا عشر ثلاثة عشر وستة عشر خمس سنوات فلنقل إنها سترْبح أربعمائة في خمس سنوات إنه مستمرّ في عدّ ما سيرْبحه من هذه الزيجة انتهى من أفْكاره وحكّ أنفه وكان على وشك الخروج من الغرفة حينما وقع بصره فجأة على الصبية فتوقف ولم يرني خلف النباتات المتسلقة وقد بدا لي أنه اهتاج بشدة وربما كان ذلك بسبب حساباته أو لأيّ سبب آخر لكن أيّاً ما كان السبب فإنه قد حكّ يديْه في قلق ولم يستطع الوقوف ساكناً وزاد هذا التهيّج إلى أقصى حدّ حينما صمت وألقى نظرة حازمة إلى عروس المستقبل وتحرّك للأمام ناظراً حوله أولاً ثم بدأ يتسلل إلى الطفلة على أطراف أصابعه كما لو كان يحسّ بالذنب واقترب منها في تكلّف وانحنى وقبّل جبْهتها فصاحت الصبية بغتة في انزعاج وسأل في همس
– وماذا تفعلين هنا يا طفلتي الصغيرة العزيزة ؟؟
ونظر حوله وربّت على خدّ الفتاة الصغيرة
– إننا نلعب .
– آه معه؟؟
– وألقى يولْيان نظرة زائغة إلى الصبي ولم يقلْ الصبيّ شيئاً وحملق فيه بشدة فنظر يولْيان حوله ثانية وانحنى على الصبية مرة أخرى وسألها
– وماذا نلتِ من الهدايا يا طفلتي الجميلة ؟؟
فأجابتْ الصبيّة متجهّمة منكمشة قليلاً
– عروسة .
– عروسة ، وهل تعلمين ممّ صنعت عروسك يا طفلتي العزيزة ؟؟
وهمست الصغيرة مجيبة
– لا .
– وأخْفت رأسها تماماً وقال يولْيان
– من الخرق يا صغيرتي العزيزة .
وألقى إلى الصبي نظرة حادة وقال له :
– يستحسن أن تذهب إلى البهو أيها الصبيّ الصغير لتلْعب مع رفاقك .
فجفلتْ الصبية والصبيّ وأمسكا ببعضهما لم يكونا يريدان أن يفترقا وعاد يولْيان يسأل الصبية خافضا صوته
– وهل تعلمين لماذا أعطوك هذه العروسة ؟؟
– لا
– لأنك كنت طفلة حسنة السلوك طوال أسبوع .
وفي هذه اللحظة نظر يولْيان حوله وقد بلغ غضبه أقصاه وسأل أخيراً وهو يتكلم بصوت أخفض لا يكاد يُسمع وكأنه يذوي تماماً من الغضب والضجر
– وهل ستكونين لطيفة معي يا طفلتي العزيزة حينما سآتي لزيارة والديْك؟؟
وودّ يولْيان وهو يقول تلك العبارة أن يقبّل الطفلة العزيزة مرة أخرى لكنّ الصبيّ أمسك بيدها بين يديْه حينما رأْى أنها توشك على البكاء وبدأ ينشج من شدة تعاطفه معها ولقد غضب يولْيان غضباً شديداً حقّاً
وقال للصبيّ :
– انصرفْ إلى البهو اذهب اذهب إلى الأطفال الآخرين هناك .
فصاحت الصبية
– لا لا تصرفْه بعيداً اذهبْ أنت .
– ورددتْ من خلال دموعها
– دعْه يبقى دعْه يبقى .
وسمع شخصاً ما يدخل الغرفة فنصب يولْيان ظهره الضخم فوراً وبدا خائفاً إلا أنّ الصبيّ كان أكثر خوفاً منه فترك الصبية وفي هدوء اتخذ طريقه خارجاً ملتصقاً بالحائط إلى غرفة الطعام .
ولكي يمنع يولْيان أيّ شكّ دخل إلى غرفة الطعام أيضاً وكان محمرّ الوجه وبدا وهو يحمْلق في المرآة الموضوعة في غرفة الطعام إنه يزداد ارتباكاً أمام صورته وربما كان متضايقاً لمظهره القلق الضجر غير العادي وقد تكون الحسابات التي أجراها على أصابعه أثّرت فيه تأثيراً شديداً وأغرته وحيّرته أيضاً لدرجة أنه رغم هدوئه وأهميته تجاسر على التصرف كصبيّ ودخل في الموضوع مباشرة مُغفلاً حقيقة أنّ هذا الموضوع لا يمكن أن يصبح موضوعاً فعليّاً إلا بعد خمس سنوات على الأقل .
تبعْتُ هذا السيد البارز إلى غرفة الطعام وشاهدت منظراً غريباً ، إذ كان يولْليان قد تملّكه الغضب والغيظ فعمد إلى إخافة الصبيّ ذا الشعر الأحمر الذي كان يفلت منه بعيداً بعيداً وهو في خوفه لا يدري أيّ طريق يسلك ويقول له في حدّة مكبوتة
– انصرفْ ماذا تفعل هنا أيها المحتال انصرفْ أكنت تسْرق الفواكه إنك تسْرق الفاكهة هه انصرفْ أيها المحتال أيها الشقي انصرف انصرف إلى رفاقك حاول الصبيّ الخائف وقد قرر في يأس أن يختفي تحت المائدة لكنه أخذ في مطاردته وقد اغتاظ لأقصى حدّ فضرب الصبي بمنديله الأخضر ، وكم كان المسكين مفزوعا ،وقد لاحظْ أنّ يولْيان كان بديناً جدّاً بارز البطن له فخذان كبيران وباختصار كان مستديراً كبندقة صغيرة وإنه شابّ سمج محْمرّ الخديْن ويتصبب عرقاً ويزفر مغتاظاً بصوت شنيع وكان حانقاً جدّاً لشعوره الكبير بالإهانة وربما من يدري علّها الغيرة انفجرت في زئير من الضحك فتلفّت يولْيان حوله رغم كل أهميّته كان منهزماً تماماً وفي تلك اللحظة دخل مضيفنا من الباب المقابل فاندفع الصبيّ خارجاً من تحت المائدة ووقف ينفض الغبار عن ركبتيْه ومرفقيْه وأسرع يولْيان يمسح أنفه بالمنديل الذي كان يمسكه من أحد أطرافه ، نظر المضيف إلينا نحن الثلاثة في شيء من الدهشة لكنه لمّا كان رجلاً يفهم الحياة وينظر من وجهة نظر جدية انتهز فرصة وجود ضيفه وحيداً فقال مشيراً إلى الطفل الأحمر الشعر هذا هو الصبيّ الذي تشرفت بأن طلبت منك فقاطعه يولْيان الذي لم يكن قد هدأ بعد – آه .
– واستطرد المضيف في لهجة الملتمس
– إنه ابن مربّية أولادي امرأة فقيرة ارملة قسيس شريف فأسألك يا يولْيان إنْ كان ممكناً
– فانفجر يولْيان ليجيب بسرعة
– أه لا لا اعفني يا فيليب الكسينتش هذا مستحيل لقد استعلمت لا توجد وظيفة خالية وحتى لو كان هناك فلدينا أكثر من عشرة متقدّمين أولى منه بالوظيفة آسفْ جدّاً آسفْ جدّاً
فقال المضيف :
-إنّ الصبيّ متواضع وهادئ يا خسارة .
فأجاب يولْيان وهو يزمّ فمه بطريقة هسْتيرية
– إنه شرّير بصوت بشع على ما أرى وأكمل وهو يلتفت إلى الصبي لماذا تقف هنا اذهب إلى رفاقك
ولم يستطعْ أن يتمالك نفسه عند هذا الحدّ بشكل ظاهر فحمْلق فيّ بنصف عين ولم أستطعْ أن أتمالك نفسي أكثر من ذلك فانفجرت ضاحكاً مباشرة في وجهه فالتفت يولْيان سريعاً بعيداً وسأل المضيف علناً أمامي من يكون هذا الشابّ الغريب؟؟
وأخذا يتهامسان معاً وتركا الغرفة ورأيت يولْيان يهزّ رأسه في ريبة وهو ينصت لما كان يقوله له صاحب الدار بعد أن ضحكتُ ملء قلبي عدت إلى البهو وهناك كان الرجل العظيم محاطاً بالآباء والأمهات بالضّيوف والضيفات ثم جذبني منظر سيدة ممْسكة بيد الفتاة الصغيرة التي كان يولْيان يتحدّث إليها في غرفة الجلوس منذ عشرة دقائق وأثنى في تلك اللحظة على الطفلة العزيزة وموهبتها ورشاقتها وسلوكها ويشيد بجمالها وكان موضع اهتمام الأمّ بصورة ملحوظة إذ أنصتتْ إليه وتكاد تدْمع عيْناها من الفرح وكانت هناك ابتسامة على شفة الأب إذ إن مضيفنا أفرط في ابتهاجه بل حتى ألعاب الأطفال انتهت لئلا يشوشوا على الحديث وساد الجوّ الاحترام ثم سمعت أمّ الطفلة الجميلة تطلب من يولْيان وبعبارات حسنة أن يجعل لها شرف منح بيتهم صداقته الغالية وسمعت بأيّ ابتهاج رضيّ يولْيان بالدعوة وكيف حاول الضيوف وقد تفرقوا بعيداً في جماعات حسبما تقتضيه قواعد اللياقة واستأنفوا حديثهم بامتداح صاحب الأرض وزوجته وابنته الصغيرة وأكثر من هؤلاء امتدحوا يولْيان .
ووجّهتُ سؤالاً بصوت عال إلى أحد معارفي الذي كان يقف قريباً من يولْيان هل هذا السيد متزوج؟؟
ولمعت عيْنا يولْيان ناظراً إليّ وأجابني صاحبي وقد أزعجه وأحزنه سوء تصرفي الذي قصدْته عمْداً
– لا …
في يوم آخر بينما كنت أسير أمام الكنيسة فوجئت بجمهرة وزحام كبير كان الجميع يتحدثون عن الزّفاف الذي جاءوا ليحضروه ، كان اليوم معْتماً قد انتشر فيه الجليد فاتخذت طريقي داخل الكنيسة مع المدعوين ورأيت العريس قصيراً مستديراً ذا بطن منتفخ وهو شاب سمج وكان مظهر أوْسمته مهيباً يصدر الأوامر صارخاً .
وأخيراً سمعت شخصاً يقول لقد وصلت العروس فشققت طريقي ورأيت فتاة رائعة الجمال في مستهلّ شبابها ولقد أضفى الكمال التقليدي لكل لمحة من تقاطيعها الهدوء ولاتزان على جمالها لكنّ هذا الجمال كان شاحباً حزيناً وإنها لتبدو مهمومة بل لقد بدا لي أنّ عينيْها محمرتان من أثر دموع حديثة وإنّ هذا الأسى الهادئ القلق الساذج البريء الطفولي كان يتوسل بصمت يطلب الرحمة والخلاص .
لقد قيل إنها في حوالي السادسة عشرة فنظرت إلى العريس متعمّداً وفجأة عرفت فيه يولْيان الذي لم أكن قد رأيته منذ حفل عيد الميلاد أي منذ خمسة سنوات ونظرت إليها يا إلهي إنها هي ، وهنا اتخذت طريقي خارجاً من الكنيسة فسمعت المدعوين يتكلمون إنّ العروس غنية لقد دفع لها مهْراً بمبلغ يصل إلى خمسمائة ألف وجهاز تكلّف كذا وكذا ورحت أفكّر وأنا أغادر إلى الشارع لقد كان حسابه صحيحاً
تمت
لا تظلِمنَّ إذا ما كنتَ مقتدراً
فالظلم آخره يفضي إلى الندمِ
تنامُ عيناك والمظلومُ منتبها
يدعو عليك وعينُ الله لم تَنَمِ