السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عبارتان بينهما بون شاسع من المشاعر والانفعالات تجيش في نفوس الأبوين وبينهما كذلك أيام وشهور وسنين من حلم بدأ عظيما ثم إذا به يذوب شيئًا فشيئًا حتى ينقلب إلى كابوس يجثم على القلب والنفس.
المشهد الأول:
حركة دائبة في المنزل، استعداد أعلى مستوى، ضيف مهم قادم، لكنه ضيف يُستعد له منذ أشهر ويراعى في كل خطوة مصلحته وما ينفعه، ثم تأتي الساعة الحاسمة ساعة قدوم الضيف، وتزداد علامات القلق والترقب والانتظار، الجميع ما بين واقف يبتهل وآخر يزرع الأرض جيئة وذهابًا، وثالث يرفع يديه إلى السماء، والقلوب كلها معلقة برب السماء تدعوه، والأعين مثبتة على باب في آخر الردهة ينتظرون أي خارج منه بلهفة … وفجأة ينفتح الباب، يخرج المكلف برئاسة لجنة الاستقبال ليعلن عن وصوله سالمًا معافى إلى أرض المطار، وما هي إلا دقائق حتى يزول القلق والترقب وتحل محله أمواج دافقة من الانفعالات والمشاعر الجياشة الداخلية والخارجية.
المشهد الثاني:
أياد أربع تحمل الضيف الذي أقبل إلى هذه الدنيا منذ أقل من ساعة تنقل إلى جسده مشاعر دافقة لقلبين يتعلقان بمضغة لحم رقيقة ضعيفة وأعين تنظر على هذا الضيف فترى فيه أحلامًا عجزت هي عن تحقيقها، فإذا بها تتحقق وواقع تعيشه فتراه يكتمل على أحسن صورة على يد هذا الضيف الكريم الذي يشع البهجة بمجرد وجوده. أفكار في الذهن تتعاظم وآمال تعلو وتكبر وكلمات تنطلق من الأفواه برغبات وأماني لا حد لها تبشر بتحققها على يد هذا الضيف الكريم.
حقًا ‘ولدي أعظم الناس’.
المشهد الثالث:
إنه يرفع صوته علي ‘أكلمه فلا ينظر إلىّ’، يصاحب أناسًا لا أطمئن إلى هيئتهم, يتلفظ بألفاظ غريبة، لا يعرف مصلحته، ينام كثيرًا، لا يتكلم معي عن خصوصياته، يسكت في المنزل ويضحك مع أصدقائه، يسرح كثيرًا، علاقته مع إخوته مضطربة، علاقته مع ربه تسوء، يسأل أسئلة محرجة، عثرت على صور وكتابات فاضحة في متعلقاته، ويلبس ملابس غريبة، يقص شعره بطريقة غير طبيعية، مطالبه المادية تتزايد، تأخر دراسي، قلق واكتئاب، حساسية شديدة، أحلام يقظة.
بصراحة ‘ ولدي لا أمل فيه’.كيف يحدث مثل هذا الانقلاب العجيب؟ كيف يتحول حلم الأمس إلى كابوس اليوم؟
الإجابة على هذا السؤال بسيطة، لكنها تحتاج منكما أيها الأبوان إلى تأمل هذا المثل الواقع.
رجل يقدم على وضع حصيلة أمواله كلها في مشروع ضخم لكنه بدون دراسة جدوى، ثم يقوم بعد ذلك بتحويل مسئولية الإشراف على هذا المشروع وخطوات إنفاق أمواله إلى آخرين بغير متابعة له، ثم هو بعد ذلك يفاجأ بخسارة أمواله وضياع نقوده، وتنطلق التعليقات :
ما حك جلدك مثل ظفرك = فتول أنت جميع أمرك
‘يداك أوكتا وفوك نفخ’ ، ‘على نفسها جنت براقش’.
كيف يمكن أيها الأب أيتها الأم أن تنتظرا من وليدكما تحقيق الأحلام والآمال وأنتما قد أوكلتما أمر رعايته وتربيته إلى محيطه من مجتمع بأفراده وإعلامه وعلاقاته وأفكاره، ألقيتما البذر ثم تركتموه حتى الحصاد بغير رعاية أو عناية.
إن الدول تضع خططًا استراتيجية تقدر على أقل مستواها بالخمس سنوات لصيانة البنية التحتية من صحة وتعليم وإعلام وخدمات وغيرها وهي في ذلك تصف النقلات في البناء والتعمير بوصفها مشروعًا قوميًا تصرف له الأموال وتنشغل به الأفكار والعقول وتبذل له الأوقات.
ابنك مشروعك القومي:
إن رجلاً يحقق الآمال وينشئ الأحلام واقعًا ملموسًا وتتعلق به الأنظار معجبة بما بذل وما وصل إليه، إن رجلاً مثل هذا ليحتاج أن يكون في بداية نشأته قد تم التعامل معه على أنه مشروع قومي صرفت عليه الأموال وبذلت له الأوقات وانشغل به المحيطون، ووفروا له كل ما يستلزمه نجاح هذا المشروع القومي.
سؤال: هل ولدك ‘أعظم الناس’ هو مشروعك القومي؟
وهنا سيتركنا بعض الآباء مقتنعين أن الإجابة لديهم لا، فيبرر ذلك حقيقة صدمتهم في أولادهم بينما الأغلبية ستظل معنا مجيبة على سؤالنا السابق بنعم فننطلق بهم إلى الفقرة التالية. نعم لقد كان ابننا مشروعنا القومي، فلقد عشنا من أجله ووفرنا له الأموال لتحقيق رغباته وطموحاته، ولم نمنعه من شيء، بل وضحينا في سبيل ذلك براحتنا ورغباتنا وتحملنا الكثير من المشاق، وأحيانًا الغربة الجسدية وأحيانًا أخرى الغربة الروحية بالعمل طوال اليوم، نعم ولدنا ‘أعظم الناس’ هو مشروعنا القومي مأكله ومشربه وملبسه ونفقاته ورغباته ومطالبه.
لكن عفوًا سيدي لنا هنا وقفة .. ابنك ليس مدينة تبنى لكنه نفخة من روح ومسكة من طين إنه كتلة من المشاعر والأفكار والأحاسيس والتفاعلات، هل تراك أيها الأب الفاضل قد تلمست حاجات ولدك الحقيقية؟ ثم هل تراك بعد ذلك قد أحسنت ترتيب أولوياتك؟ وبعد فمن سيتبقى الآن بصحبتنا من الآباء والأمهات هم هؤلاء الذين اعتبروا ابنهم مشروعهم القومي فبذلوا له الأوقات تسبق الأموال، وأيقنوا أن الجانب النفسي والعاطفي والفكري له الأولوية في تحقيق التوازن النفسي والاقتراب من تحقيق صورة الكمال في تنفيذ المشروع القومي.
لكننا سنجد من بين هؤلاء الأباء والأمهات من ما زالت لديهم تلك الشكاوى وهذه الدهشة التي تعتريهم أحيانًا من تصرفات أولادهم ومن تغيرات سلوكياتهم خاصة عند انتقالهم من مرحلة إلى أخرى في فترات عمرهم فإلى هؤلاء نقول:
* إنه لا بد لوصول الأباء والأمهات إلى الصواب في التعامل مع أبنائهم إلى الاتصال بذوي الاختصاص من علماء الشريعة والمختصين بالتربية للنشء المسلم ممن يتمتعون بقاعدة علمية شرعية قوية، ومن أصحاب الخبرة والمشهود لهم بالعمل الدعوى الواقعي عميق الأثر في المجتمع المسلم.
* لا بد لك أيها الأب الفاضل والأم الفاضلة من مراعاة الاعتدال والتوازن في التعامل مع الظواهر الخاصة بالابن أو ما يمكننا أن نطلق عليه عبارة ‘بين’ وفيما يلي بعض من هذه الإشارات بين الإفراط والتفريط.
1ـ بين السطحية والعمق:
في تعامل كثير من الأباء والأمهات مع تصرفات الأبناء نجد أنها تفتقد التوازن بين الإفراط في السطحية أو العمق، والتفريط فيها.ويتمثل ذلك في الصور الآتية:
أـ تضخيم التصرفات غير المتكررة أو بعض الكلمات التي تخرج من الابن بصورة عفوية لكن غير مقصودة، والتعامل مها على أنها أمراض متأصلة، واتخاذ الإجراءات للقضاء عليها، مما يعطي شعور التربص وتصيد الأخطاء عند الأبناء.
ب ـ التعامل مع التصرفات المتكررة بصورة سطحية أو لا مبالاة إما لعدم اعتبارها مؤشرات على مشاكل تبدأ في النمو أو لاعتقاد أنها طبيعية في هذه المرحلة التمردية فلا حاجة للانشغال بها وعلاجها وتنبه ‘فمعظم النار من مستصغر الشرر’.
2ـ بين رغباتنا ورغبات أبنائنا:
كم تختلط الأفهام وتتوه الحقائق وسط الرغبات والأماني الأحلام، وإني لمقدر بشدة لحقيقة سيطرة الأحلام والأمنيات على بعض الآباء، فقد عِشت أخي الأب العمر كله ترجو تحقيق هذا الحلم لكن ابنك إنسان له آماله وأحلامه وأمنياته.
فكن معه ولا تكن عليه، ولأن يحقق ولدك ‘أعظم الناس’ رغباتك بمحض إرادته أفضل من أن تقوم بإلزامه بتحقيقها مكرهًا ثم يحملك عواقبها فتسوء العلاقة بينكما.
3ـ بين العقاب والثواب:
وهذه من أكثر المواقف التي يحدث فيها الخلل في الاتزان بين الإفراط والتفريط وذلك عن طريق:
أـ وسائل العقاب فمنها ما أنكره الشرع من تعيير الابن المستمر بخطأ ارتكبه مثلاً.
ب ـ درجة العقاب بحيث لا يكون على مستوى الخطأ زيادة أو نقصًا وإهمالاً.
ج ـ تخصيص بالعقاب أن يعاقب الابن على ما يفعله غيره ولا يعاقب عليه، أو يفعله أبوه كالتدخين مثلاً.
د ـ عدم الإثابة على الفعل الحسن بالكلمة أو الفعل أو الإشارة.
و ـ شكل العقاب بإهانته أمام الآخرين وفضحه.
هذه فقط لمحات قليلة لك أخي الأب أختي الأم، كل غرضي منها أن نتنبه أننا قبل أن نربي أبناءنا بأشد الاحتياج إلى تربية أنفسنا، وإذا كنا لا نعرف دواخل أنفسنا ودوافعها فكيف بمعرفتنا لأبنائنا فهم كالأغراب، وهم ينامون بجوارنا. لا تدع ابنك يحلم وينمو ويكبر بمفرده فتفاجأ فيما بعد بولدك هذا الحلم العظيم الذي داعب خيالك عندما حملته مضغة لحم ينقلب إلى كابوس جاثم ناقم عليك لا تملك عليه سيطرة، وتنبه فالقاعدة تنص على:
إن أخلاق المراهق وتصرفاته تعكس أسلوب تربيته وهو طفل’
إننا بحاجة إلى فهم دوافع الابن في تصرفاته في مرحلة المراهقة وحقيقة هذه الدوافع وأسبابها، ثم واجبنا تجاه هذه التصرفات وكيف نستثمرها وندفع بها في طريق تحقيق الأحلام والرغبات، أو بالأصح تكوين الشاب والفتاة الناضجين مكتملي النمو العقلي والنفسي والجسدي، ونحن في ذلك نتعلم كما يتعلم أبناؤنا، ونستفيد كما يستفيدون ونحتاج إلى إعادة تصويب أفكارنا وتصوراتنا باستمرار فنحن أمام مشروع قومي لا يجوز الانشغال عنه بأي حال من الأحوال، وعفوًا نسوق لكم المشهد الأخير لنقرب البعيد ونتلمس الغيب الذي وعد الله تعالى به كل أب وأم جزاءً لهما على حرصهما على بناء مشروعهما القومي، وبذل الجهد كله لتحقيق كماله.
المشهد الأخير:
ابن يقدم أمه وأباه على زوجته ويبرهما في كبرها يسأل عليهما يكرمهما، ولا يهينهما، يبر أقرباءهما وأصدقاءهما، يدعو لهما، يخدمهما، وهو سبب شرفهما، وقرة عينهما وفخر قلوبهما في الدنيا بما حققه من استكمال مستلزمات وظيفة الاستخلاف في لأرض، وفي الآخرة بالشرف الكريم، إذ يلبسان حلة الكرامة وتاج الكرامة، فيقال: بم هذا؟ فينادي بأخذ ولدكما القرآن. فكم تهون حينذاك تلك الساعات الطوال المبذولة في الانشغال بمعاناته ومشاركته فكره والصبر عليه، وتنبه فكما تقول عند الإفطار في الصيام: ‘ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله’ فها هنا نقول: ‘ذهب الأرق، والقلق والألم والمعاناة، وأنس القلب وفرح وانشرح الصدر وانفسح، وثبت الأجر إن شاء الله, فهنيئًا لمن رُزِق بكنز فحافظ عليه وأدى أمانته فكوفئ جزاء أمانته وصبره، ‘وما يلقاها إلا الذين صبروا’
منقووووووووول للإفادة