ياقوتالحموي
أو عبد الله ياقوت بنعبد الله، الرومي الجنس والمولد الحموي المولى البغدادي الدار، الملقب شهاب الدين،أسر من بلاده صغيراً، وابتاعه ببغداد رجل تاجر يعرف بعسكر بن أبي نصر إبراهيمالحموي، وجعله في الكتاب، لينتفع به في ضبط تجائره، وكان مولاه عسكر لا يحسن الخطولا يعلم شيئاً سوى التجارة، وكان ساكناً ببغداد، وتزوج بها وأولد عدة أولاد، ولماكبر ياقوت المذكور قرأ شيئاً من النحو واللغة، وشغله مولاه بالأسفار في متاجره فكانيتردد إلى كيش وعمان وتلك النواحي ويعود إلى الشام. ثم جرت بينه وبين مولاه نبوةأوجبت عتقه فأبعده عنه، وذلك في سنة ست وتسعين وخمسمائة، فاشتغل بالنسخ بالأجرة،وحصلت له بالمطالعة فوائد، ثم إن مولاه بعد مديدة ألوى وأعطاه شيئاً وسفره إلى كيش،ولما عاد كان مولاه قد مات، فحصل شيئاً مما كان في يده وأعطى أولاد مولاه وزوجته ماأرضاهم به، وبقيت بيده بقية جعلها رأس ماله، وسافر بها وجعل بعض تجارته كتباً.
وكان متعصباً على علي بن أبي طالب، رضيالله عنه، وكان قد طالع شيئاً من كتب الخوارج، فاشتبك في ذهنه منه طرف قوي، وتوجهإلى دمشق في سنة ثلاث عشرة وستمائة وقعد في بعض أسواقها، وناظر بعض من يتعصب لعليرضي الله عنه، وجرى بينهما كلام أدى إلى ذكره علياً، رضي الله عنه، بما لا يسوغ،فثار الناس عليه ثورة كادوا يقتلونه، فسلم منهم، وخرج من دمشق منهزماً بعد أن بلغتالقضية إلى والي البلد، فطلبه فلم يقدر عليه، ووصل إلى حلب خائفاً يترقب، وخرج عنهافي العشر الأول أو الثاني من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وستمائة، وتوصل إلىالموصل. ثم انتقل إلى إربل وسلك منها إلى خراسان وتحامى دخول بغداد، لأن المناظر لهبدمش كان بغدادياً، وخشي أن ينقل قوله فيقتل فلما انتهى أمره إلى خراسان أقام بهايتجر في بلادها، واستوطن مدينة مرو مدة، وخرج عنها إلى أن نسا ومضى إلى خوارزم،وصادفه وهو بخوارزم خروج التتر، وذلك في سنة ست عشرة وستمائة، فانهزم بنفسه كبعثهيوم الحشر من رمسه، وقاسى في طريقه من المضايقة والتعب ما كان يكل عن شرحه إذاذكره، ووصل إلى الموصل وقد تقطعت به الأسباب، وأعوزه دنيء المأكل وخشن الثياب، أقامبالموصل مدة مديدة، ثم انتقل إلى سنجار وارتحل منها إلى حلب، وأقام بظاهرها فيالخان، إلى أن مات في التاريخ الآتي ذكره إن شاء الله تعالى.
ونقلت من " تاريخ إربل " الذي عني بجمعه أبو البركات ابنالمستوفي – المقدم ذكره – أن ياقوتاً المذكور قدم إربل في رجب سنة سبع عشرةوستمائة، وكان مقيماً بخوارزم، وفارقها للواقعة التي جري فيها بين التتر والسلطانمحمد بن تكش خوارزم شاه.
وكان قد تتبعالتواريخ، وصنف كتاباً سماه " إرشاد الألباء إلى معرفة الأدباء " يدخل في أربعةجلود كبار، ذكر في أوله قال: " وجمعت في هذا الكتاب ما وقع إلي من أخبار النحويينواللغويين والنسابين والقراء المشهورين، والأخباريين والمؤرخين والوراقين العروفينوالكتاب المشهورين وأصحاب الرسائل المدونة، وأرباب الخطوط المنسوبة المعينة، وكل منصنف في الأدب تصنيفاً أو جمع فيه تأليفاً، مع إيثار الاختصار والإعجاز في نهايةالإيجاز، ولم آل جهداً في إثبات الوفيات، وتبيين المواليد والأوقات، وذكر تصانيفهمومستحسن أخبارهم، والإخبار بأنسابهم وشيء من أشعارهم، في تردادي إلى البلادومخالطتي للعباد، وحفت الأسانيد إلا ما قل رجاله وقرب مناله، مع الاستطاعة إثباتهاسماعاً وإجازة، إلا أنني قصدت صغر الحجم وكبر النفع، وأثبت مواضع نقلي ومواطن أخذيمن كتب العلماء المعول في هذا الشأن عليهم، والرجوع في صحة النقل إليهم ".
ثم ذكر أنه جمع كتاباً في أخبار الشعراءالمتأخرين والقدماء. ومن تصانيفه أيضاً كتاب " معجم البلدان "، وكتاب " معجمالشعراء "، وكتاب " معجم الأدباء "، وكتاب " المشترك وضعاً المختلف صقعاً " وهو منالكتب النافعة، وكتاب " المبدأ والمآل " في التاريخ، وكتاب " الدول " و" مجموع كلامأبي علي الفارسي " و" عنوان كتاب الأغاني "، و" المقتضب في النسب " يذكر فيه أنسابالعرب، وكتاب " أخبار المتنبي ".
وكانت له همة عالية في تحصيل المعارف.
وذكر القاضي الأكرم جمال الدين أبو الحسنعلي بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد الشيبانيالقفطي، وزير صاحب حلب كان رحمهالله تعالى، في كتابه الذي سماه " إنباه الرواة على أنباه النحاة " أن ياقوتاًالمذكور كتب إليه رسالة من الموصل إليها هارباً من التتر، يصف فيها حاله وما جرى لهمعهم، وهي بعد البسملة والحمدلة: " كان المملوك ياقوت بن عبد الله الحموي قد كتبهذه الرسالة من الموصل في سنة سبع عشرة وستمائة، وحين وصوله من خوارزم طريد التتر،أبادهم الله تعالى، إلى حضرة مالك رقه الوزير جمال الدين القاضي الأكرم أبي الحسنعلي بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد الشيباني، ثم التيمي تيم بني شيبان بن ثعلبةبن عكابة، أسبغ الله عليه ظله، وأعلى في درج السيادة محله، وهو يومئذ وزير صاحب حلبوالعواصم، شرحاً لأحوال خراسان وأحواله، وإيماء إلى بدء أمره بعد ما فارقه ومآله،وأحجم عن عرضها على رأيه الشريف إعظاماً وتهيباً، وفراراً من قصورها عن طولهوتجنباً، إلى أن وقف عليها جماعة من منتحلي النظم والنثر، فوجدهم مسارعين إلىكتبها، متهافتين على نقلها، وما يشك أن محاسن مالك الرق حلتها، وفي أعلى درجالإحسان أحلتها، فشجعه ذلك على عرضها على مولاه، وللآراء علوها في تصفحها، والصفحعن زللها، فليس كل من لمس درهماً صيرفياً، ولا كل من اقتنى داراً جوهرياً. وها هيذه: " بسم الله الرحمن الرحيم، أدام الله على العلم وأهليه، والإسلام وبني، ماسوغهم وحباهم، ومنحهم وأعطاهم، من سبوغ ظل المولى الوزير، أعز الله أنصاره، وضاعفمجده واقتداره، ونصر ألويته وأعلامه، وأجرى بإجراء الأرزاق في الآفاق أقلامه، وأطالبقاه، ورفع إلى عليين علاه، في نعمة لا يبلى جديدها، ولا يحصى عددها ولا عديدها،ولا ينتهي إلى غاية مديدها، ولا يفل حدها ولا حديدها، ولا يقل وادها ولا وديدها،وأدام دولته للدنيا والدين يلم شعثه، ويهزم كرثه، ويرفع مناره، ويحسن بحسن أثرهآثاره، ويفتق نوره وأزهاره، وينير نواره، ويضاعف أنواره، وأسبغ ظله للعلوم وأهليها،والآداب ومنتحليها، والفضائل وحامليها، يشيد بمشيد فضله بنيانها، ويرصع بناصع مجدهتيجانها، ويروض بيانع علأئه زمانها، ويعظم بعلو همته الشريفة بين البرية شأنها،ويمكن في أعلى درج الاستحقاق إمكانها ومكانها، ويرفع بنفاذ الأمر قدره للدولالإسلامية والقواعد الدينية، يسوس قواعدها، ويعز مساعدها، ويهين معاندها، ويعضدبحسن الإيالة معاضدها، وينهج بجميل المقاصد مقاصدها، حتى تعود بحسن تدبيره غرة فيجبهة الزمان، وسنة يقتدي بها من طبع على العدل والإحسان، يكون له أجرها ما دامالملوان وكر الجديدان، وما أشرقت من الشرق شمس، وارتاحت إلى مناجاة حضرته الباهرةنفس ".
وبعد،فالمملوك ينهي إلى المقر العالي المولوي، والمحل الأكرم العلي – أدام الله سعادتهمشرقة النور مبلغة السول، واضحة الغرر بادية الحجول – ما هو مكتف بالأريحيةالمولوية عن تبيانه، مستغن بما منحتها من صفاء الآراء عن إمضاء قلمه لإيضاحهوبيانه، قد أحسبه ما وصف به عليه الصلاة والسلام المؤمنين، وإن من أمتي لمكلمين،وهو شرح ما يعتقده من الولاء، ويفتخر به من التعبد للحضرة الشريفة والاعتزاء، قدكفته الألمعية، عن إظهار المشتبه بالملق مما تجنه الطوية، لأن دلائل غلو المملوك فيدين ولائه في الآفاق واضحة، وطبعة سكة إخلاص الوداد باسمه الكريم على صفحات الدهرلائحة، وإيمانه بشرائع الفضل الذي طبق الآفاق حتى أصبح بها بناء المكارم متين،وتلاوته لأحاديث المجد القريبة الأسانيد بالمشاهدة لديه مبين، ودعاء أهل الآفاق إلىالمغالاة في الإيمان بإمامة فضله الذي تلقاه باليمين، وتصديقه بملة سؤدده الذي تفردبالتوخي لنظم شارده وضم متبدده بعرق الجبين، حتى لقد أصبح للفضل كعبة لم يفترض حجهاعلى من استطاع إليها السبيل، ويقتصر بقصدها على ذوي القدرة دون المعتر وابن السبيل،فإن لكل منهم حظاً يستمده، ونصيباً يستعد به ويعتده، فللعظماء الشرف الضخم منمعينه، وللعلماء اقتناء الفضائل من قطينه، وللفقراء توقيع الأمان من نوائب الدهروغض جفونه، وفرضوا من مناسكه للجبهة الشريفة السلام والتبجيل، وللكف البسيطةالاستلام والتقبيل، وقد شهد الله تعالى للمملوك أنه في سفره وحضره، وسره وعلنهوخبره ومخبره، شعاره تعطير مجالس الفضلاء، ومحافل العلماء بفوائد حضرته، والفضائلالمستفادة من فضلته، افتخاراً بذلك بين الأنام، وتطريزاً لما يأتي به في أثناءالكلام:
إذا أناشرفت الورى بقصـائدي
على طمعٍ شرفت شعري بذكره
(يمنون عليك أن أسلموا، قل لاتمنوا علي إسلامكم، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين) لا حرمناالله معاشر أوليائه مواد فضائله المتتالية، ولا أخلانا كافة عبيده من أياديهالمتوالية، اللهم رب الأرض المدحية، والسموات العلية، والبحار المسجرة، والرياحالمسخرة، اسمع ندائي، واستجب دعائي، وبلغنا في معاليه، ما نؤمله ونرتجيه، بمحمدالنبي وصحبه وذويه.
وقد كان المملوك لما فارق الجناب الشريف، وانفصل عن مقر العزاللباب والفضل المنيف، أراد استعتاب الدهر الكالح، واستدرار خلف الزمن الغشومالجامح، اغتراراً بأن الحركة بركة، والاغتراب داعية الاكتساب، والمقام على الإقتارذل وإسقام، وجلس البيت، في المحافل سكيت:
وقفتوقوف الشك ثم استمـر بـي
يقيني بأن الموت خير من الفـقـر
فودعت من أهلي وبالقلـب مـابـه
وسرت عن الأوطان في طلب اليسر
وباكية للبين قلت لـهـااصـبـري
فللموت خير من حياة على عـسـر
سأكسب مـالاً أو أمـوتبـبـلـدةٍ
يقل بها فيض الدموع علىقـبـري
فامتطى غارب الأمل إلى الغربة،وركب مركب التطواف مع كل صحبة، قاطعاً الأغوار والأنجاد، حتى بلغ السد أو كاد، فلميصحب له دهره الحرون، ولا رق له زمانه المفتون:
إنالليالي والأيام لو سـئلـت
عن عيب أنفسها لم تكتمالخبرا
فكأنه في جفن الدهر قذى، أو في حلقه شجاً، يدافعه نيلالأمنية، حتى أسلمه إلى ربقة المنية:
لايستقر بأرضٍ أو يسـير إلـى
أخرى بشخصٍ قريب عزمه نائي
يوماً بحزوى ويوماً بالعقـيقويو
ماً بالعذيب ويوماً بالخـلـيصـاء
وتارة ينـتـحـي نـجـداًوآونة
شعب الحزون قصـرتـيمـاء
وهيهات مع حرفة الأدب، بلوغ وطرأو إدراك أرب، ومع عبوس الحظ، ابتسام الدهر الفظ ولم أزل مع الزمان في تفنيد وعتاب،حتى رضيت من الغنيمة بالإياب، والمملوك مع ذلك يدافع الأيام ويزجيها، ويعلل المعيشةويرجيها، متقنعا بالقناعة والعفاف، مشتملاً بالنزاهة والكفاف، غير راض بذلك السمل،ولكن مكره أخاك لا بطل، متسلياً بإخوان قد ارتضى خلائقهم، وأمن بوائقهم، عاشرهمبالألطاف، ورضي منهم بالكفاف، لا خيرهم يرتجى، ولا شرهم يتقى:
إن كانلابد من أهل ومن وطن
فحيث آمن من ألقى ويأمننـي
قد زم نفسه أن يستعمل طرفاًطماحاً، وأن يركب طرفاً جماحاً وأن يلحف بيض طمع جناحاً، وأن يستقدح زنداً وارياًأو شحاحاً:
وأدبنيالزمان فلا أبـالـي
هجرت فلا أزار ولا أزور
ولست بقائل ما عشتيومـاً
أسار الجند أم رحل الأمير
وكان المقام بمرو الشاهجان،المفسر عندهم بنفس السلطان، فوجد بها من كتب العلوم والآداب، وصحائف أولى الأفهاموالألباب، ما شغله عن الأهل والوطن، وأذهله عن كل خل صفي وسكن، فظفر منها بضالتهالمنشودة، وبغية نفسه المفقودة، فأقبل عليها إقبال النهم الحريص، وقابلها بمقام لامزمع عنها ولا محيص، فجعل يرتع في حدائقها، ويستمتع بحسن خلقها وخلائقها، ويسرحطرفه في طرفها، ويتلذذ بمبسوطها ونتفها، واعتقد المقام بذاك الجناب، إلى أن يجاورالتراب:
إذا ماالدهر بيتني بجـيشٍ
طليعته اغتمام واغتـراب
شننت عليه من جهتيكميناً
أميراه الذبالة والكـتـاب
وبت أنص من شيمالليالـي
عجائب من حقائقها ارتياب
بها أجلو هموميمستريحاً
كما جلى همومهم الشراب
إلى أن حدث بخراسان ما حدث منالخراب، والويل المبير والتباب، وكانت لعمر الله بلاداً مونقة الرجاء، رائقةالأنحاء، ذات رياض أريضة، وأهوية صحيحة مريضة، قد تغنت أطيارها، فتمايلت طرباًأشجارها، وبكت أنهارها، فتضاحكت أزهارها، وطاب روح نسيمها، فصح مزاج إقليمها،ولعهدي بتلك الرياض الأنيقة، والأشجار المتهدلة الوريقة، وقد ساقت إليها أرواحالجنائب، زقاق خمر السحائب، فسقت مروجها مدام الطل، فنشأ على أزهارها حباب كاللؤلؤالمنحل، فلما رويت من تلك الصهباء أشجاره، رنحها من النسيم خماره، فتدانت ولا تدانيالمحبين، وتعانقت ولا عناق العاشقين، يلوح من خلالها شقائق قد شابه اشتقاق الهوىبالعليل، فشابه شفتى غادتين دنتا للتقبيل، وربما اشتبه على التحرير بائتلاف الخمر،وقد انتابه رشاش القطر، ويريه بهاراً يبهر ناضره، فيرتاح إليه ناظره، كأنه صنوج منالعسجد، أو دنانير من الإبريز تنقد، ويتخلل ذلك أقحوان تخاله ثغر المعشوق إذا عض خدعاشق، فلله درها من نزهة رامق ولون وامق، وجملة أمرها أنها كانت أنوذج الجنة بلامين، فيها ما تشتهي النفس وتلذ العين قد اشتملت عليها المكارم، وارجحنت في أرجائهاالخيرات الفائضة للعالم، فكم فيها من حبرٍ راقت حبره، ومن إمام توجت حياة الإسلامسيره، آثار علومهم على صفحات الدهر مكتوبة، وفضائلهم في محاسن الدنيا والدينمحسوبة، وإلى كل قطرة مجلوبة، فما من متين علم وقويم رأي إلا ومن شرقهم مطلعه، ولامن مغربة فضل إلا وعندهم مغربه وإليهم منزعه، وما نشأ من كرم أخلاق بلا اختلاق إلاوجدته فيهم، ولا أعراق في طيب أعراق إلا اجتليته من معانيهم، أطفالهم رجال، وشبابهمأبطال، مشايخهم أبدال، شواهد مناقبهم باهرة، ودلائل مجدهم ظاهرة، ومن العجب العجابأن سلطانهم المالك، هان عليه ترك تلك الممالك، وقال لتفسه الهوى لك، وإلا فأنت فيالهوالك، وأجفل إجفال الرال، وطفق إذا رأى غير شيء ظنه رجلاً بل رجال (كم تركوا منجناتٍ وعيون وزروعٍ ومقامٍ كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين) لكنه عز وجل لم يورثهاقوماً آخرين، تنزيهاً لأولئك الأبرار عن مقام المجرمين، بل ابتلاهم فوجدهم شاكرين،وبلاهم فألفاهم صابرين، فألحقهم بالشهداء الأبرار، ورفعهم إلى درجات المصطفينالأخبار (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم، واللهيعلم وأنتم لا تعلمون) البقرة: فجاس خلال تلك الديار أهل الكفر والإلحاد، وتحكم فيتلك الأبشار أولو الزيغ والعناد، فأصبحت تلك القصور، كالممحو من السطور، وأمست تلكالأوطان مأوى الأصداء والغربان، تتجاوب في نواحيها البوم، وتتناوح في أراجيها الريحالسموم، ويستوحش فيها الأنيس، ويرثي لمصابها إبليس:
كأن لميكن فيها أوانس كالـدمـى
وأقيال ملك في بسالتـهـم أسـد
فمن حاتم في وجوده وابـنمـامة
ومن أحنف إن عد حلم ومن سعد
تداعى بهم صرف الزمانفأصبحوا
لنا عبرة تدم الحشا ولمـنبـعـد
فإنا لله وإنا إليه راجعون منحادثة تقصم الظهر، وتهدم العمر، وتفت في العضد، وتوهي الجلد، وتضاعف الكمد، وتشيبالوليد، وتنخب لب الجليد، وتسود القلب، وتذهل اللب، فحينئذ تقهقر المملوك على عقبه،ناكساً، ومن الأوبة إلى حيث تستقر في النفس بالأمن آيساً، بقلب واجب، ودمع ساكب،ولب عازب، وحلم غائب، وتوصل وما كاد حتى استقر بالموصل بعد مقاساة أخطار، وابتلاءواصطبار، وتمحيص الأوزار، وإشراف غير مرة على البوار والتبار، لأنه مر بين سيوفمسلولة، وعساكر مفلولة، ونظام عقود محلولة، ودماء مسكوبة مطلولة، وكان شعاره كلماعلا قتبا، أو قطع سبسباً (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) الكهف: فالحمد لله الذيأقدرنا على الحمد، وأولانا نعماً تفوت الحصر والعد، وجملة الأمر أنه لولا فسحة فيالأجل، لعز أن يقال سلم البائس أو وصل، ولصفق عليه أهل الوداد صفقة المغبون، وألحقبألف ألف ألف ألف ألف هالك بأيدي الكفار أو يزيدون، وخلف خلفه جل ذخيرته، ومستمدمعيشته:
تنكر ليدهري ولم يدر أنـنـي
أعز وأحداث الزمـان تـهـون
وبات يريني الخطب كيفاعتداؤه
وبت أريه الصبر كـيفيكـون
وبعد، فليس للملوك ما يسلي بهخاطره، ويعزي به قلبه وناظره، إلا التعلل بإزاحة العلل، إذا هو بالحضرة الشريفةمثل:
فاسلمودم وتمل العيش فـي دعة
ففي بقائك ما يسلي عن السلـف
فأنت للمجد روح والورىجسـد
وأنت در فلا تأسى على الصدف
والمملوك الآن بالموصل مقيم،يعالج لما حزبه من هذا الأمر المقعد المقيم، يزجي وقته، ويمارس حرفته، وبخته يكاديقول له باللسان القويم (تالله إنك لفي ضلالك القديم)(يوسفيذيب نفسه في تحصيلأغراض، هي لعمر الله أعراض، من صحف يكتبها، وأوراق يستصحبها، نصبه فيها طويل،واستمتاعه بها قليل، ثم الرحيل، وقد عزم بعد قضاء نهمته، وبلوغ بعض وطر قرونته، أنيستمد التوفيق، ويركب سنن الطريق، عساه أن يبلغ أمنيته، من المثول بالحضرة، وإتحافبصره من خلالها ولو بنظرة، ويلقى عصا الترحال بفنائها الفسيح، ويقيم تحت ظل كنفهاإلى أن يصادفه الأجل المريح، وينظم نفسه في سلك مماليكها بحضرتها، كما ينتمي إليهافي غيبتها، إن مدت السعادة بضبعه، وسمح له الدهر بعد الخفض برفعه، فقد ضعفت قواه عندرك الآمال، وعجز عن معاركة الزمان والنزال، إذ ضمت البسيطة إخوانه، وحجب الجديدانأقرانه، ونزل المشيب بعذاره، وضعفت منة أوطاره، وانقض باز على غراب شبابه فقنصه،وأكب نهار الحلم على ليل الجهل فوقصه، وتبدلت محاسنه عند أحبابه مساوي وخصصه،واستعاض من حلة الشباب القشيب، خلق الكبر والمشيب:
وشباببان مني وانقضى
قبل أن أقضي منه أربي
ما أرجى بعده إلاالـفـن
ضيق الشيب علي مطلبي
ولقد ندب المملوك أيام الشباببهذه الأبيات، وما أقل غناء الباكي على من عد في الرفات:
تنكر ليمذ شبت دهري وأصبحت
معارفه عندي من الـنـكـرات
إذا ذكرتها النفس حنتصـبـابةً
وجادت شؤون العين بالعـبـرات
إلى أن أتى دهر يحسن مامضى
ويوسعني تـذكـاره حـسـرات
فكيف ولم يبق من كاسمشربـي
سوى جرع في قعـره كـدرات
وكل إناء صفـوه فـيابـتـدائه
وفي القعر مزجاً حمـأةٍوقـذاة
والمملوك يتيقن أنه لا ينفق هذاالهذر الذي مضى، إلا النظر إليه بعين الرضا، ولرأي المولى الوزير الصاحب، كهف الورىفي المشارق والمغارب، فيما يلاحظه منه بعادة مجده، مزيد مناقب ومراتب،والسلام.
ولقد طالت هذه الترجمة بسبب طول الرسالة، ولم يمكنقطعها.
وقال صاحبنا الكمال بن الشعار الموصلي في كتاب " عقود الجمان ": أنشدني أبو عبد الله محمد بن محمود المعروف بابن النجار البغدادي صاحب " تاريخبغداد " قال: أنشدني ياقوت المذكور لنفسه في غلامٍ تركي قد رمدت عينه وعليها وقايةسوداء:
ومولدٍللترك تحسب وجهـه
بدراً يضيء سناه بالإشـراق
أرخى على عينيه فضلوقاية
ليرد فتنتها عن الـعـشـاق
تالله لو أن السوابغدونـهـا
نفذت فهل لوقايةٍ مـن واق
وكانت ولادة ياقوت المذكور فيسنة أربع أو خمس وسبعين وخمسمائة، ببلاد الروم، هكذا قاله. وتوفي يوم الأحد العشرينمن شهر رمضان سنة ست وعشرين وستمائة، في الخان بظاهر مدينة حلب، حسبما قدمنا ذكرهفي أول الترجمة، رحمه الله تعالى.
وكان قد وقف كتبه على مسجدالزيدي الذي بدرب دينار ببغداد، وسلمها إلى الشيخ عز الدين أبي الحسن علي بن الأثيرصاحب التاريخ الكبير، فحملها إلى هناك. ولما تميز ياقوت المذكور واشتهر سمى نفسه " يعقوب ".