هل انتهى عصر الرجولة؟ هل انقلب الزمن وأصبح بعض الرجال يعيشون عالة على أموال ومرتبات زوجاتهم؟ أم إنَّ ظروف العصر القاسية وارتفاع متطلبات الحياة جعل راتب الزوجة أكثر أهمية لضبط شؤون المنزل بحيث لا يتنازل عنه الرجل؟ هل تصدق أن العديد من الرجال باتوا يستغلون حاجة النساء إلى الزواج والعفة والحماية وتكوين أسرة، خصوصًا في ظل ارتفاع أرقام العنوسة الرهيبة وتزايد حالات الطلاق، بحيث يشترطون أن تنفق عليهم الزوجة أو يكون لهم نصيب في راتبها الشهري؟ هل أصبح الزوج يعتمد على راتب زوجته عملاً بالمثل القائل: "القفة أم ودنين يشيلوها اثنين" فأصبح يخفض لها جناحه حتى أصبحت هي رجل البيت بالفعل؟
الواقع يقول إن هناك بُعدَين لهذه الظاهرة: أحدهما: اجتماعي حقيقي يتمثل في قيام المرأة في هذا الزمن برعاية العديد من الأسر وبقاء الرجل عالة على هذه المرأة العاملة، والثاني: عاطفي ومعنوي يتمثل في انتهاء دور الرجل الأسري كحَامٍ للأسرة من الضياع، والجَناح الذي يغطي الزوجة، وأن ضياع هيبته العاطفية المعنوية جاء بعدما فقد هيبته الاجتماعية وأصبح غير قادر على الإنفاق على أسرته أو رعاية أولاده.
فإذا كانت الرجولة تعني قوة التحمُّل والرعاية والمسؤولية والبذل والاحترام، والتضحية بالمال والنفس، فهذه المعاني أصبحت تتحلَّى بها العديد من النساء ممن يَقُمن على رعاية أسرهن والإنفاق عليها، خصوصًا في حالات الزوجة الأرملة أو من لا يعمل زوجُها ويتعايش عليها، أو التي يرفض زوجها الإنفاق على الأسرة، وينتظر راتبها بلهفة كل أول شهر.
مع تحول نسبة من رجال هذا العصر إلى ما هو ضد الصفات السابقة بعدما انتقلت هذه الصفات إلى زوجاتهم، أصبحوا يفتقدون إلى باقي صفات الرجولة، مثل العفة، والطهارة، والعطاء، والكرم، والتواضع النبيل، وضبط النفس، والعدل، والكرامة، والإنصاف، واحترام الذات.
جوز الست:
تقول س.ع أنَّها ظَلَّتْ ترفض أزواجًا تقدَّموا لها عدة مرات بسبب أحوالهم الماديَّة والاجتماعية السيِّئة، حتى دخلت مرحلة الأربعين العمرية، فبدأت تقدم تنازلات، وأنها اضطرت إلى الزواج من رجل لا يعمل وليست له وظيفة، وكل مؤهلاته أنه لا يزال شابًا وسيمًا تفخر به بين صديقاتها وتخفي به عُنوستها التي طالت، أمَّا كُلّ مؤهلاته فهو أنه كما يقال "جوز الست"
وتقول أن زوجها هذا لا ينفق عليها برغم إغداقه الهدايا خلال الخطوبة، وأنه بدأ تدريجيًا يطالبها بمصروفه من راتبها الكبير، بل وفتَّش في أوراقها الخاصَّة، وعندما علم أنَّ لديها رصيدًا في البنك طلب منها شراء سيارة بحجة الاستثمار فيها وتأجيرها ومع ذلك رفض تأجيرها عدة مرات كي يقضي بها زياراته لأصدقائه، والأغرب أنه يرفض سداد قسط السيارة ويطالبها هي بالسداد وهي مضطرة لأن السيارة باسمها.
أما النكتة أو الصدمة فهي أنه في كل مرة يطلب منها المال وترفض أو تتلكأ، يغضب ويذهب إلى منزل والدته وكأنه يرفع راية العصيان ويهددها بمصيرها لو تركها، فتضطر المسكينة إلى خطب وُدِّه وإعطائه المال كي يبقَى معها "ظل راجل ولا ظل حيطة" كما يقال في الأمثال الشعبية.
وهناك العديد من المدونات التي كتبتها نساء متزوجات للفضفضة مما يعانينه من أزواجهن تركز على هذه القضية الخاصَّة باعتماد الرجل على راتب زوجته والمطالبة به كحق له نظير خروج المرأة من المنزل، حتى بلغ الأمر ببعضهن إلى السخرية من هؤلاء الرجال والتهديد بتركهن لأزواجهن لأنهن مقتنعات أن الزوج هو الذي يتمسك بهن لامتلاكهن المال وليس العكس، وأن تهديداته ليست سوى دخان من غير نار حقيقية.
عصر انقراض الرجولة:
كشفت أحاديث النساء في مدوناتهن أو ساحات الفضفضة على الانترنت عن اختفاء معالم الرجولة الحقيقية القديمة مثل النخوة، والعفة، والصدق، وذلك يتمثل في صور أكثر فحشًا؛ فمنهم من يشركون زوجاتهم في تجارة المخدرات مع الرجال أو يجبرونهن على ممارسة الفاحشة مع الغير وقد يكرهون بناتهم أيضًا على فعل ذلك بأجر أو لمصالح خاصة بهم، ويقولون: إن هذه الظاهرة باتت تعرضها الصحف حيث تقدم نماذج لرجال يفعلون هذا بلا نخوة ولا أخلاق.
ويرجع البعض نقص الرجولة هذا إلى حقائق علمية وإحصاءات رسمية تقول أن 7% من الرجال يعانون العقم أو الضعف الشديد في الخصوبة، وهذا التحول رصَدَه أكثر من عالم مثل براين سايكس – أستاذ علم الوراثة بجامعة أكسفورد – في كتابه "مستقبل بلا رجال" مؤكدًا من خلاله أن ضعف الرجال سيتضاعف شيئًا فشيئًا حتى يصبحوا عاجزين عن لعب أي دور مؤثر في الحياة ولا حتى دورهم الأزلي في الإبقاء على النوع البشري.
و"سايكس" لم يكن الوحيد من العلماء الذي رصد هذه الظاهرة فستيف جونس – من جامعة لندن – كان أكثر تشاؤمًا عندما كشف من خلال بحثه الذي نشره في كتاب "الذكر الخطأ في الطبيعة" عن تآكل الكروموسوم الذكري في الخلية إلى ثلث حجمه، من خلال دراسات أجريت على هياكل ما قبل التاريخ، أظهرت أن الكروموسوم المسؤول عن الفحولة قد خسر ثلثيه على مدى ال300 مليون سنة الماضية، وهذا التآكُل والتفَسُّخ ماض في طريقه من دون توقف، وإذا استمرت الأشياء وفقًا لطبيعتها فإن التوقعات تقول إن الرجال في طريقهم إلى الانقراض بعد 125 ألف سنة من الآن!
ثلث الأسر تعولها نساء:
الإحصائيات الرسمية المصرية الصادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية تؤكّد أنَّ أكثر من ثلث الأسر المصريَّة تعولُها نساء نظرًا لغياب عائِلها إمَّا بالموت الماديّ أو المعنوي، والثلث الآخر من المجتمع تتحمَّل المرأة فيه مسؤولية الأسرة اجتماعيًا، إضافة إلى مشاركتها المادية التي قد تصل إلى 80% نظرًا إلى غياب عائلها بسبب السفر، وهذا يعنى أن ثلثي المجتمع تعوله وتتحمل مسؤوليته المرأة وحدها، وهي نماذج ترحب بها منظمات المرأة المصرية وأبدى بعض أعضائها سعادته لتناوُلها – ضمنا – في ثنايا مسلسلات رمضان هذا العام.
وبالمقابل ترتفع نسبة البطالة بين الرجال بصورة كبيرة، وتتراوح وفق بعض الإحصائيات غير الرسمية بين مليونين وستة ملايين شاب بنسبة تقترب من 10- 20% من العمالة المصرية على سبيل المثال، وقرابة 4% في بعض دول الخليج على الرغم من الثراء الواضح، وهو ما يدفع إلى قيام الزوجة أو الأم أو الابنة غالبًا برعاية الأسرة.
وبرغم أن نسبة البطالة بين النساء أكبر من الرجال، حيث وصلت نسبة البطالة بين الإناث إلى 21% والرجال 7%، فالملاحظ أنَّ النساء يعملن في أي مجال، ويقبلن الكثير من الأعمال التي يرفضها الرجال بأجور متدنيَة.
والخطورة هنا تتمثل في انصراف النساء والرجال معًا عن تربية الأبناء وهذا يؤثر في مستقبلهم سلبًا؛ فقد كشفت إحصائية للمجلس القومي للخدمات والتنمية الاجتماعية التابع للمجالس القومية المتخصّصة عن أنَّ 22% من الأسر المصرية تعولها سيدات، غالبًا ما يكُنَّ فقيرات وأمِّيات، وحذرت من هذا التنامي الملحوظ في احتلال المرأة مكانة الرجل وهذا يعني التأثير في تربية الأطفال بالسلب.
العولمة أكلت الرجولة:
وعلى حين تختلف آراء خبراء علم الاجتماع والنفس في الأسباب الحقيقية لتآكل الرجولة، ويطرحون أسبابًا عديدة مثل صعوبة الأحوال المادية، وانتشار الفقر والعنوسة، ودخول السيدات مجال الأعمال، يري آخرون أنَّ هناك أسبابًا أخرى معنوية لهذا التراجع لدور الرجولة نتيجة ضياع معالم هذه الرجولة المعنوية.
ويقولون إنَّ الرجل كان يتميز قديمًا بأنه هو الذي ينفق على الأسرة ويحتويها ويحافظ على أسرته، أمَّا الآن فهو غير قادر على الإنفاق على أسرته، أو توفير متطلبات الحياة الكريمة لها، ويُضطرّ في أحيان كثيرة إلى الاعتماد على راتب زوجته، وهذه كلها أمور تؤثر في معنوياته وفي نفسيته، وتجعله يصمت، ويتجاوز عن الكثير من الأمور التي لم يكن يقبلها رجال آخرون قديمًا.
ويلخص د. محمد المهدي – خبير الطب النفسي – كل معالم ضياع الرجولة وتراجعها في سبب جامع شامل يضمّ كلَّ هذه الأمور السابقة وهو "العولمة" مشيرًا إلى أنَّ هذا التآكل الخطير في معاني الرجولة وقِيَمِها على مستوى البيت والشارع، وعلى مستوى الدول هو الاتجاه العالمي الجديد الذي تقوده أمريكا، والذي يُسَفِّه كل القيم حيث تنتمي هذه القيم إلى العالم القديم الذي تستعلي عليه أمريكا وتسفهه، مشيرًا إلى البُرجماتية مذهبًا عالميًا جديدًا يضع المكاسب والمنافع فوق كلّ القيم، بل إنَّه على استعداد لإلغاء كل شيء أمام تحقيق مكاسبه الأنانية الشخصية.
ويقول د. المهدي: هناك "زحف أنثوي" على جوانب الحياة المختلفة والانتقال من مرحلة تحرير المرأة إلى مرحلة تمكين المرأة، وهو ما أدَّى إلى انسحاب الرجل من كثير من مواقعه كيدًا أو عنادًا أو مقاومة سلبية ردًّا على تهديد عقدة التفوّق الذكوري لديه، متسائلاً: هل هي فلسفة الشَّرَه الاستهلاكي الاستمتاعي السائدة التي لا تهتم بالقيم قدر اهتمامها بقدر اللَّذَّة الحاصلة أو المتوقَّعة من أيّ فعل؟ هل هي أنظمة سياسية وقيادات إعلامية ودينية بعينها تدعو ليل نهار إلى قيم هي أبعد ما تكون عن قيم الرجولة، ووجدت هذه الدعوة صدًى لدى الناس لما تمنحهم من راحة التخلي والسلبية والاستمتاع المتوهم بمكاسب الحياة ورفاهيتها بعيدًا عن الدخول في صراعات تستجلبها المواقف أو القرارات ذات السمت الرجولي؟!
هذا المقال الرائع لمحمد جمال عرفة