التصنيفات
قصص قصيرة

الصائغ والملك -قصة

الصائغ والملك

حكي أن رجلا من أبناء الناس كانت له يد في صناعة الصياغة ، وكان أوحد أهل زمانه ، فساء حاله وافتقر بعد غناه ، فكره الإقامة في بلده ، فأتقل إلى بلد آخر ، فسأل عن سوق الصاغة ، فوجد دكان لمعلم السلطنة وتحت يده صناع كثيرون يعملون الأشغال للسلطنة ، وله سعادة ظاهرة ما بين مماليك وخدم و قماش وغير ذلك ، فتوصل الصائغ الغريب إلى أن بقي من أحد الصناع الذين في دكان هذا المعلم وأقام يعمل عنده مدّة ، وكلما فرغ النهار دفع له درهمين من فضة ، وتكون أجرة عمله تساوي عشرة دراهم ، فيكسب عليه ثمانية دراهم في كل يوم ، فأتفق أن الملك طلب المعلم وناوله فردة سوار من الذهب مرصعة بفصوص في غاية الحسن قد عملت في غير بلاده كانت في يد إحدى محاظيه ، فانكسرت ، فقال له : الحمها ، فأخذها المعلم وقد اضطرب عليه في عملها ، فلما أخذها وأراها للصناع الذين عنده وعند غيره فما قال له أحد انه يقدر على عملها ، فازداد المعلم لذلك غما ، ومضت مدة وهي عنده لا يعلم ما يصنع، فاشتد الملك على إحضارها ، وقال : هذا المعلم نال من جهتنا هذه النعمة العظيمة ولا يحسن أن يلحم سوارا ، فلما رأى الصائغ الغريب شدّة ما نال المعلم قال في نفسه : هذا وقت المروءة أعملها ولا أؤاخذه ببخله على عدم إنصافه ولعله يحسن إلي بعد ذلك ، فحط يده في درج المعلم وأخذها وفك جواهرها وسبكها ثم صاغها كما كانت ، ونظم عليها جواهرها ، فعادت أحسن ما كانت ، فلما رآها المعلم فرح فرحا شديدا ، ثم مضى بها إلى الملك ، فلما رآها استحسنها وادعى المعلم أنها صنعته ، فأحسن إليه وخلع عليه خلعة سنية ، فجاء وجلس مكانه ، فبقي الصائغ يرجو مكافأته عما عامله به . فما التفت إليه المعلم ، ولما كان النهار ما زاده على الدرهمين شيئا ، فما مضت إلا أيام قلائل ، وإذا الملك اختار أن يعمل زوجين أساور على تلك الصورة ، فطلب المعلم ورسم له بكل ما يحتاج إليه ، وأكد عليه في تحسين الصفة وسرعة العمل ، فجاء إلى الصائغ وأخبره بما قال الملك ، فامتثل مرسومه ولم يزل منتصبا إلى أن عمل الزوجين ، وهو لا يزيد شيئا على الدرهمين في كل يوم ولا يشكره ولا يعده بخير ولا يتجمل معه ، فرأى المصلحة أن ينقش على زوج منهما أبياتا يشرح فيها حاله ليقف عليها الملك فنقش في باطن إحداهما هذه الأبيات نقشا خفيفا يقول :

مصائب الدهر كفيّ *** إن لم تكفّي فعفّي
خرجت أطلب رزقي *** وجدت رزقي توفّي
فلا برزقي أحضى *** ولا بصنعة كفّي
كم جاهل في الثريا *** و عالم متخفّي

قال : وعزم الصانع على أنه إن ظهرت الأبيات للمعلم شرح له ما عنده وان غم عليه ولم يرها كان ذلك سبب توصله إلى الملك ، ثم لفها في قطن وناولها للمعلم فرأى ظاهرها ولم ير باطنها لجهله بالصنعة ، ولما سبق له في القضاء ، فأخذهما المعلم ومضى بهما فرحا إلى الملك ، وقدمهما إليه ، فلم يشك الملك في أنهما صنعته ، فخلع عليه وشكره ، ثم جاء فجلس مكانه ولم يلتفت إلى الصانع ، وما زاده في آخر النهار شيئا على الدرهمين ، فلما كان اليوم الثاني خلا الخاطر الملك فأستحضر الحظية التي عمل لها السوارين الذهب فحضرت وهما في يديها ، فأخذهما ليعيد نظره فيهما وفي حسن صنعتهما ، فقرأ الأبيات ، فتعجب وقال : هذا شرح حال صانعهما والمعلم يكذب ، فغضب عند ذلك الملك وأمر باءحضار المعلم ، فلما حضر قال له : من عمل هذين السوارين ؟ قال : أنا أيها الملك ، قال : فما سبب نقش هذه الأبيات ؟ قال : لم يكن عليها أبيات . قال : كذبت ثم أراه النقش . قال : إن لم تصدقني الحق لأضربن عنقك ، فأصدقه الحق . فأمر الملك بإحضار الصانع ، فلما حضر سأله عن حاله ، فحكى له قصته ، وما جرى له مع المعلم ، فرسم الملك بعزل المعلم وأن تسلب نعمته وتعطى للصانع ، وأن يكون عوضا عنه في الخدمة ثم خلع عليه خلعة سنية ، وصار مقدما سعيدا ، فلما نال هذه الدرجة . وتمكن عند الملك تلطف به حتى رضي عن المعلم الأول وصار شريكين ومكثا على ذلك إلى آخر العمر . ورحم الله القائل :

إذا كان سعد المرء في الدهر مقبلا *** تدانت له الأشياء من كل جانب

وقال آخر:
ما سلّم الله هو السالم *** ليس كما يزعم الزاعم
تجري المقادير التي قدرت *** وأنف من لا يرتضي راغم

الأبشيهي – المستطرف في كل فن مستظرف

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.