بقلم هيا الرشيد
حصل والدي في بداية حياته على منصب كبير، وراتب مرتفع، وأحب والدتي كل الحب، وبادلته نفس الشعور، كان ينفذ لها كل طلباتها، وكانت تعمل جهدها ليكون سعيداَ، وكنت أنا وشقيقتاي سعيدات بهذه الحياة، خادمتان للعمل على راحتنا، وسائق يأخذنا إلى حيث نريد، بيت كبير وجميل، أثاث رائع، سيارات فاخرة، أموال وفيرة، حقاَ إنها حياة سعيدة، هكذا كنا نقول، أو هكذا توهمنا.
في نهاية كل فصل دراسي يبدأ التفكير، إلى أين ؟؟ أين سنقضي إجازة هذا العام ؟؟ المهم أي مكان خارجي ..حفظنا الشوارع والطرقات والأسواق في بلادهم، ولا نعرف شيئاَ عن بلادنا، كنا في تلك الفترة نعتقد أن مدينة الرياض كافية، حيث كنا نعيش فيها، وكالعادة الاختيار في النهاية للوالدة.
جدتي لأمي كانت لنا دائماَ بالمرصاد، وكأنها قد عاهدت نفسها على أن تعطينا جرعة نصائح في كل مرة نسافر فيها، كانت توجه اللوم لأمي، معترضة على نوعية أسفارنا، وكانت كثيراَ ما تردد جملتها المعروفة الموجهة إلى أمي، والتي حفظناها عن ظهر قلب:- هداك الله يا ابنتي، متى تؤدين حجك ؟؟ متى تزورين بيت الله ؟؟ اصطحبي بناتك لأداء العمرة، لزيارة المسجد النبوي.
أمي كانت مستعدة للإجابة على الدوام :- لا زلنا شباباَ ، ولا زال العمر أمامنا طويلاَ ، سنحج ونعتمر ونزور بيت الله مرات كثيرة ، وسنأخذك معنا أيضاَ .
بدأت إجازة الصيف ، وتعالى الضجيج في البيت ، أين سنقضي الإجازة ؟ ومتى سنذهب ؟ كانت إشارة من أبي كفيلة بأن نلوذ بالصمت ، أشار بإصبعه إلى أمي ، فالحل والربط لديها ، هي التي تقرر المكان والزمان ، وأبي مثلنا يسير على ما تمليه عليه أمي .
اتجهت بنظري إليها ، وكذلك شقيقتاي ، ابتسمت بهدوء وقالت :- لا داعي للقلق ، سنذهب في رحلة جميلة كما تعودنا في الأعوام السابقة ، ولكننا سنتأخر هذا العام قليلاَ لحضور حفل زفاف ابنة خالتي .
تبادلت مع أخواتي نظرات فرح وحزن ، فالفرح لأننا سنذهب ، والحزن لأن رحلتنا ستتأخر،
كان لنا في نفس الجلسة مجادلات حول الرحلة المنتظرة ، وبالأخص حول المكان الذي سنذهب إليه ، وكنا في حيرة شديدة ، فقد ذهبنا إلى أغلب بلاد الدنيا ، فإلى أين هذه المرة ؟
مرت الأيام بسرعة وكنا خلالها نعد العدة للرحلة المنتظرة ،عدة التبرج والسفور، ولم ننس شيئاَ من مستلزمات السفر الأخرى ، التذاكر، الشيكات السياحية ، جوازات السفر ، تم الاستعداد لكل شيء .
جاء اليوم المحدد ، اليوم الذي كنا ننتظره بفارغ الصبر، يوم الانطلاق ، يوم السفر إلى أجمل الأماكن في العالم .
حزمنا متاعنا ، وأعددنا الحقائب بعناية فائقة ، وحان الوقت ، فلم يبق على الإقلاع سوى وقت محدود ، بالكاد يكفي لشحن الأمتعة .
ونحن نستعد للخروج ذهبت أمي مسرعة إلى الهاتف كعادتها قبل السفر دائماَ ، تودع جدتي وتراضيها بكلمتين ، أقفلت الخط وعادت مبتسمة ، لا بد أنه الموضوع المعتاد لجدتي ، متى تزرن الديار المقدسة ؟؟ إلى متى هذه الغفلة ؟؟ مكة أولى بكن.. والمدينة المنورة أكرم لكن ..ألا تتوق أنفسكن لزيارة المسجد الحرام؟؟ ألا تشتقن لرؤية الكعبة المشرفة؟؟ الم تشعرن بالحنين لمسجد رسول الله؟؟ لقد حان الوقت لتؤدين فرضكن..الحياة غير مضمونة..والظروف كذلك .
نادانا والدي ، وذهبنا مسرعين ، وأصواتنا تتعالى ، فرح ، ومرح لا حدود لهما ، وما هي إلا دقائق معدودة وانطلقت بنا السيارة إلى المطار ، ونحن نحلم بالسعادة التي اعتدنا عليها كل عام ، والمتعة التي نحصل عليها في كل بلد نسافر إليه .
أزيز الطائرات ، صالات المطارات ، تعدد الجنسيات ، هذه الأشياء التي خالطت دماءنا ، وأصبحت جزءاَ من حياتنا ، نجد في المطار الكثير من هواة الأسفار ، تعارف ، صداقات سريعة ، وأحياناَ مصادفات غريبة ، إجراءات روتينية في المطار ، وانتظار طويل في صالة الرحلات الخارجية ، وهاهو مكبر الصوت يصدح برقم رحلتنا ، ويرشدنا إلى البوابة المخصصة ، حملنا متاعنا اليدوي ، وذهبنا مسرعين ، تأكد المسئول لدى البوابة من بطاقات صعود الطائرة ، دلفنا عبر الممر ، جلس كل منا في المقعد المخصص له ، كنا نمني أنفسنا برحلة مميزة هذا العام ، رحلة مختلفة عما مضى من رحلات .
انطلقت بنا الطائرة ، شعرنا لحظة الإقلاع برهبة ممتعة ، تماسكنا الأيدي حتى استقرت الطائرة ، ذهبنا وكلنا أمل في الحصول على جرعات وافية من المتعة ،الانطلاق ، الحرية ، هبطت بنا الطائرة ، أكمل والدي الإجراءات المطلوبة ، استلمنا أمتعتنا ، توجهنا بعدها إلى أفخم فندق في المدينة ، فقد حجزنا فيه مسبقاَ ، وصلنا متعبين ، ولكننا لم نصبر ، نريد التجوال من اليوم ، سنستغل كل لحظة من وقتنا ، لن نضيع لحظة في الراحة أو الكسل .
لقد انطلقنا في موعد مع السعادة ، فكان موعد مع الألم، أمي تشعر بالضيق ، والدوار، لعله تأثير الطائرة، فالرحلة كانت طويلة ، وشاقة، آلام مؤقتة سرعان ما تزول ، هذا قرص للصداع ، وهذه حبة للغثيان ، سيكون الحال على ما يرام ، لم نخرج في ذلك اليوم ، لا بأس سنعوض في الغد .
استيقظنا في اليوم التالي مبكرين ، أنين أمي أيقظنا ، تأوهاتها لم تنقطع ، آلامها تزداد ،طلبنا الطبيب ،منذ اللحظة الأولى ، قرر المطلوب ، لا بد من نقلها إلى المستشفى ، الأمر ليس عادياَ ، هذه المرة مختلفة ، بدأ شعور السعادة يتحول ، بدأت قلوبنا المنبسطة بالانقباض ، ألقى والدي ببعض النصائح المقتضبة، لا تفتحوا لأحد ، تأكدوا من إغلاق الباب ، سأتصل بالهاتف أو أعود إليكن ، اصطحب أمي إلى أقرب مستشفى .
مرت الساعات ثقيلة ، كئيبة ، عاد والدي بعدها وحيداَ ، عاد بوجه غير الذي ذهب به ، عاد وكأنما وضع عشرون عاماَ على عمره الحقيقي ، سألناه عن أمنا ، ستمكث في المستشفى قليلاَ ، لا بد من إجراء بعض الفحوصات ، والتحاليل السريعة ، حضرت للاطمئنان عليكن ، سأعود إلى المستشفى .
خرج مسرعاَ ، عشنا لحظات رهيبة ، أفئدتنا كانت تتنقل بين الرجاء والخوف ، نظراتنا تلتقي ، ألسنتنا عاجزة عن التعبير ، رفعنا أيدينا وقلنا يا رب ، لأول مرة نشعر بالوهن النفسي ، والأسى ، والخوف من القادم المجهول .
مرت أيام قليلة وكأنها دهور طويلة ، والدي صامت، شارد الذهن ، ولكننا بدأنا نستشف الحقيقة ، ملامحه الحزينة أوحت لنا بالحقيقة المرة ، نظراته الزائغة نطقت بالوضع الخطير ، الوضع الصحي المتدهور لأمي ، سبحان الله ، أحداث لم تكن بالحسبان ، وتطورات لم نتوقعها .
بعد أيام ، ذهبنا لزيارتها ، تغيرت جذرياَ خلال أيام قليلة ، ضعف ، وهن ، عجز ، تهذي ببعض الكلمات ، وتردد بعض العبارات ، أريد أن أعود ، أريد أن أموت هناك ، تغير حالها ، وتبدل شكلها ، فمن يراها الآن لا يصدق نفسه من سرعة تحولها ، ذهب كل شيء في أيام قليلة ، الجمال ، والحيوية ، والنضارة ، والأناقة ، فقد كان من يراها قبل فترة بسيطة ، يظن بأنها أخت لنا، أما الآن فسبحان مغير الأحوال ، طمأنها والدي وهو غير مطمئن:- ستكونين بخير ، الطب تطور ، الله قادر على كل شيء .
نظرت إلينا والألم يعتصر قلبها ، سألتنا والحسرة تملأ فؤادها :-هل تعرفون ما الذي أتمناه في هذه اللحظة ؟ استرسلت في الكلام وأجابت بنفسها :- أتمنى زيارة المسجد الحرام ، أتمنى رؤية الكعبة المشرفة ، أرغب في أن أصلي في مسجد رسول الله .
أخذ والدي يعد العدة للعودة إلى الرياض ، تشتت ذهنه بيننا وبين أمي ، الإجراءات الروتينية تأخذ مجراها في كل مكان ، جوازات ، تذاكر ، المستشفى ، الفندق ، المواصلات ، أيام على هذا الحال ، بالكاد يجد فرصة ليأخذنا للزيارة .
عدنا إلى الرياض ، عودة لم نعتادها من قبل ، فوراَ إلى أكبر المستشفيات ، أجساد منهكة ، مشاعر ممزقة ، أفكار متلاطمة ، كيف ذهبنا ، وبأي حال عدنا ، أين الأهل والأحباب ؟ أين الاستقبال الذي اعتدنا عليه كل عام ؟ أين الولائم التي تقام فرحاَ بمقدمنا ؟ وجوم ليس له حدود ، وأيام تمر، وتكبر معها الآلام والأحزان .
صحتها في تدهور مستمر ، وكل يدلي بدلوه ، انقلوها لذلك المستشفى ، هناك طبيب بارع في تلك المدينة ، لماذا أغفلتم الطب الشعبي؟؟ اذهبوا بها إلى فلان ، علاجه فعال ، أثبت جدارته كثيراَ .
بعد أيام ، يأتي الخبر ، كما توقعناه ، وأعددنا أنفسنا لتقبله ، انتقلت إلى رحمة الله ، ثلاثة أيام لم نذق فيها طعم النوم ، مرارة شديدة ، وحزن جارف ، لم يمر خلالها الطعام أمام أفواهنا ، هذا داخل ، وهذا خارج ، ورنين الهاتف لم يتوقف ، المواساة من الجميع ، وكلام العزاء يتردد .
تحول والدي من هول المصاب إلى شخص آخر ، يهذي ببعض الكلمات ، يتمتم بجمل غير مفهومة ، يتحدث بينه وبين نفسه ، تغيرت ملامحه ، الحزن تمكن من كل عضو في جسده المنهك ، لم يكن كبيراَ ، هدته الهموم والأحزان ، وأضافت إلى عمره الحقيقي الكثير من السنوات ، مرارة الندم لديه كانت على أشدها ، يقظة الضمير جاءت وبقوة ، بدأ يعيد حساباته مع نفسه ، نفض الغبار عن مصحف في مكتبته ، أخذ يتلو كتاب الله ، كان يتردد بين القرآن والمسجد ، استمر على هذا الحال لمدة طويلة .
استوعبت عقولنا المصاب ، واختزنت نفوسنا الألم ، والحزن لم يخبو بعد، لكن الحياة لم تتوقف ، عاد والدي إلى عمله ، وعدنا إلى مدارسنا ، وذكريات والدتي تعيش بيننا ، صارت جزء منا ، هنا كانت تجلس ، وهكذا كانت تعمل ، وكذا كانت تقول ، وهذا تحبه ، وهذا تكرهه ، هذه الصفة ترضيها ، وهذه تغضبها .
دخل والدي في ذلك اليوم مبتسماَ ، استبشرنا خيراَ ، اتجهنا نحوه بسرعة ، ها قد عادت الابتسامة إلى بيتنا ، من خلال أهم فرد فينا ، ما الخبر ؟ ماذا حدث ؟ أجاب على أسئلتنا بسؤال لم نتوقعه :- ما رأيكن برحلة جميلة ؟ رحلة !! أجبنا سوية وعلى الفور :- وهل هذا الوقت مناسب للرحلات ؟؟ أجاب بابتسامة أخرى:- ولكنها هذه المرة مختلفة تماماَ، سنزور أجمل البقاع على وجه الأرض، مكة المكرمة، والمدينة المنورة، نؤدي العمرة، ونصلي في مسجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
صيد الفوائد