|
*
؛ لقد ولت أيامها مثلما مرت أعوامها
أضحت روحاً بجسد شبحي يحتوي فتات طفلة دمرتها الحظوظ تحت وطأة غير راحمة قبلاً كانت تسمع تلك الموسيقى المطربة لأسماعها مانعة لها عن التفكير في مهالك الماضي المتعبة ها هي الآن بعد مضي سنون من حادثتها التي أودت بحياتها وأحالتها جسداً وروحاً هائمتين ببحر مكدر معكر في هذا المعترك الحالك بأفاعيل البشر… رهينة بين موتها وذكرياتها الجميلة كانت طفلة تلعب أمام ساحة بيتها قبل عشرين عاماً، تلاطف بيديها ذرات الندى على العشب المبلل قبالتها الملل رسم نقشه على عينيها القسطليتين بكل براءة فراحت تنفخ وجنتيها بضجر ناظرة صوب والدها المنهمك بإصلاح الأرجوحة لها فقد تلفت بفعل الزمن ثوانٍ من الصمت الشائك التزمتها فاستطردت قائلة – أبي، متى سيعود "باسم"؟؟ لم يكن باسم سوى جارها وصديقها الوحيد هنا والذي سافر قبل عدة أيام رفقة أبويه لزيارة جده كلمة سيعود ليست كافية أو حتى مشبعة لتسكت قلق أنغام الصغيرة وتجبره على الصمت بجوف قلبها قبل أن تدخل تهادى إلى أسماعها صوت والدها منادياً أعادت خطواتها مهرولة نحوه غير آبهة لباقي ما قاله حول المستقبل وشعرها البني القصير المتطاير زاد ظرافة على ابتسامتها التي غايرت شكلها قبل برهة، وضعت الدب بجوارها أسفل الشجرة اتسعت عينيها مغنية للسعادة عندما رفعها بهدوء حتى جلست عليها، دفعها قليلاً فضحكت بفرحة عارمة نفى بيده ليأخذ عدته مولياً أدراجه للداخل رفعت رأسها أماماً وبدأت بهز نفسها ببطء مسبلة لعينيها يتراءى لها بوقفته عندما يهتف لها منادياً وبعدها يمسك بيدها ليلعبا معاً بالأرجوحة ويقضيا الوقت بين خصام مؤقت وانزعاج تعود إليه البسمات بعد ساعات من الفراق حسباها أعواماً في ذاك الوقت لم تشاطر إحساسها معه فقد أخذتها الأنانية لتحجب كل شيء عنها وعنه تدندن بذات النغمات، ضحكت ونطقت اسمه لأكثر من مرة، تشعر بالسعادة لأنه سيعود أخيراً على اقتراب منها كان يحاول كبحها عند المنعطف، لكنه فشل لقد اقتربت منها أكثر، الأجدر بها الهرب راحت ضحية ميتة تناثرت على جسدها الهزيل أوراق فقدت الحياة كما فقدتها هي بذاك اللون البرتقالي المصفر المتآكل فلقد غادر أبويها البيت بعد أن حزنا على فراقها وبكيا حتى جفت الدموع عنهما في محاولة يائسة لنسيان شكلها ونسيان طلتها الضاحكة فكرا بأن نهاية ألمهما هو الرحيل لكنهما نسيا تماماً حزنها فهي لازالت على تلك الأرجوحة الخيالية تدندن بنغم الهارمونيكا وخالت أنهما بذاك الفعل نسياها حقاً وتركاها وحيدة بين عالم غريب وعالمها الذي غادرته دبها لازال موضوعاً بمكانه رغم انكسار الشجرة وتشوه مظهرها عبر مرور الزمن في وقتها انتشرت شائعات بأن صوتاً للحن ما يعم في البيت، لحن أرعب كل من أراد استئجاره والمكوث فيه الموت كان الصدمة الكبرى عليه بعد أن أخبره أهله بأن هذه السنة هي الثانية المارة على يوم وفاتها فهرع حاملا للهارمونيكا وعاد لعزفه أمام الشجرة المكسورة معيدا لدبها بجوارها، أحس أن روحها كانت تنتظره ولازالت، تأسف لها عبر أنغام هي وحدها من يفهمها ويترجم ما يعنيه بلحن دامع حزين ومتألم… تلك الروح الجالسة على أرجوحة الوحدة فكان إن تذكرها أحياناً يقف مقابلاً لها كأنه يناجي طيفها بنظرات آسية هائمة ويمر بذات العيون الغائبة بأغوار ماضيه ثم تراه يخرج من بيته ولا يزوروها، مرت أيام وكبر كل شيء فيه… نظرته وتفكيره، بعدها سنوات غيرت جل ما بملامحه التي أضحت ساكنة على غير ما عهدت منه من مرح وطفولية بوقتها معه عزمت ذات يوم أن تترك مكانها وتدخل بيته أن تكلمه وإن كان خيالها عابثاً هل يعقل بأن أفراده قد هجروه مثلما فعلوا مع بيتها؟؟ رأت يده تتحرك بسكينة لتلامس شعره الكحيل الذي أخفى عينيه اللطفتين عنها فتحركت هي كذلك لتقف مقابلة له نطقت بأنغام الهارمونيكا الوحيدة التي تحب، طالبة منه أن يروي عطش اشتياقها لها عادت إلى أرجوحتها الخيالية لتهزها ببطء كما كانت تفعل قبل لحظات موتها أغمضت عينيها وبدأت تدندن بأنغام الهارمونيكا الحزينة أنغام، لطالما أرادت أن تكون قريبة بشكل كبير من باسم… لكنها الآن بعيدة بشكل كبير عنه فجأة رفعت رأسها نحو بيت باسم ولازالت الحيرة متعلقة بناظريها صحبة دموعها الحارقة هتفت باسمه على غير هوادة مسرعة نحوه، ففمه كأن سيلاً من الدماء قد خرجت منه جلست بأرجوحتها مبتسمة بآسى على حال باسم تدندن بنغمها… لم ترتعب من تلك اليد التي وضعت على كتفها – وأتيت إليكِ – تأخرت وأتيت، "أحبك باسم" ابتسم بود لم يكن بباخل به يوماً أرادت أنغام أن يرافقها باسم وها قد أتى لكي تكمل دربها معه بتلك الضحكة وتلك البسمة المتواضعة منه * ~تمت~ ، *…*…*…* |