‘طفلة لاتتألم
……………
حالة مرضية غريبة تحرم طفلة من الشعور بالخوف وحرارة النار وآلام الإصابات قد يفرح المرء بما يراه نعمة من الله تعالى، ولكن ما أفرحك من ظاهر الخير، قد يحمل في أحشائه الموت الزؤام. هذا ما يؤكده جون وتارا بعدما اكتشفا أن ابنتهما اشلين ، التي لم يتجاوز عمرها الأسبوعين، هادئة بشكل غير معهود في الأطفال. فهي لا تبكي ولا تترك هدوءها مهما ابتليت بأمراض أو صامت عن الأكل والشرب، بل تنام ملء جفونها دون أن تبدو عليها أي من علامات الضيق أو عدم الراحة. تقول أمها تارا (33 عاماً) وهي تتذكر «كنا نأخذها للطبيب ونحن نظن أننا أنجبنا أسعد أطفال العالم لأنها لا تتأثر بمنغصات الحياة». وعاش الأبوان بهذه المشاعر الطيبة حتى قبيل بضعة أشهر، عندما احمرت عين ابنتهما اليسرى وأصبحت كأنها مشبعة بالدماء دون أن تبكي أو تتألم. تقول أمها «أعطيناها قطرة عيون دون فائدة. وكانت أمها مصرة أنه ثمة شيء ليس على ما يرام. وصدق حدس الأم بالفعل بعد أن اكتشف طبيب العيون وجود ورم كبير في قرنية العين اليسرى. وعادة ما يشعر المرء جراء ذلك بآلام مبرحة تجعل الكبير البالغ يصيح بأعلى صوته، ولكن اشلين لم تفعل». وبعد إجراء عدة فحوصات استطاع الأطباء أخيراً أن يكتشفوا أن اشلين تعاني من عيب ولادي يتمثل في عدم الإحساس بالألم مع عدم التعرق congenital insensitivity to pain with anhidrosis، وهي حالة مرضية تسمى اختصاراً سيبا CIPA. وهو داء لا علاج له ونادراً ما تحدث إصابة المرء به، إذ تبلغ عدد حالات الإصابة به في كل الولايات المتحدة الأمريكية فقط 35 حالة. وقد جعلت سيبا اشلين لا تشعر بالألم أو درجة حرارة الجو أو حرارة جسدها مهما كانت، وهذا يجعلها عرضة لقطاع عريض من المخاطر والإصابات والالتهابات. ويقول جون والد اشلين (32 عاماً) «عندما يسمع الناس بهذا الداء لأول وهلة لا يرون فيه شراً، بل يتمنونه لأنفسهم. وقد كان بالفعل هذا إحساسنا في أول أمرنا. ولكن سرعان من تبين لنا خطورة ألا يشعر الإنسان بالألم. فإن الألم لا يحدث إلا بأسباب، وهو بمثابة إنذار للمرء ليبحث عن مسببات ذلك الألم».
وهل لك أن تتصور طفلاً يصطدم بالجدار ويسيل الدم من وجهه دون أن يشعر بألم؟ أو تتخيل طفلة تجرح نفسها فقط للتمتع بمنظر الدم يخرج من جسمها. إنها اشلين (5 سنوات الآن) التي وضعت يدها داخل العادم الخاص بمحرك يعمل بالغاز ما أدى لإصابتها بحروق بالغة الخطورة. كما أنعصر أصبعها عند إغلاق الباب لتصاب بعدة كسور فيه والابتسامة لم تفارق شفتيها، ولكن والديها هما اللذان كانا يتألمان. ودخلت اشلين ذات يوم على والديها في منزلهم الريفي في باترسون بولاية جورجيا، وهي تشكو أنها لا تستطيع إزالة الأوساخ من جسمها. يقول أبيها «اكتشف – لذهولنا – أن الأوساخ كانت «نمل ناري». كانت هناك المئات منها تنهش لحمها دون أن تشعر أشلين بأي ألم». وكم مرة عضت اشلين لسانها وأتلفت جزءاً منه دون شعورها بالألم، وكم مرة اصطدمت بالأبواب والجدران لتكسر عدداً من أسنانها الأمامية، وكم مرة داست بقدمها على زجاجة وأصيب بجرح عميق وهي لا تزال تركض وتلعب. تقول أمها تارا «قد يبدو للبعض أن هذه خصلة إيجابية تتميز بها اشلين على أقرانها. ولكني أقول لهم «انها رحمة باطنها العذاب». ولكن رغم أن اشلين قد تشكل خطراً على نفسها، إلا أنها أصبحت مصدر بهجة وحبور على والديها وأطبائها ومدرسيها. وفي بيت والديها الريفي المكون من خمس غرف نوم، والكائن في ضاحية باترسون، تتجول اشلين من غرفة إلى أخرى، وتداعب أخاها الصغير ذي الأربعة أشهر، وتركل كل ما يصادفها في طريقها من أثاث البيت وأدوات المطبخ.
وقد استطاعت اشلين مؤخراً أن تعلم أنها ليست كبقية الأطفال. تقول اشلين وهي تلهو بلعبتها «إنني لا أشعر بأطرافي». وفيما يشعر الأطفال الآخرون، أمثال أخيها ديريك (7 سنوات) وأختها تريستين (سنتان)، بالارهاق عندما يلعبوا كثيراً، فإن اشلين لا تفتر ولا تكل ولا تمل من اللعب. تقول عنها بيث كلاود الممرضة بمدرسة باترسون الابتدائية «قد تفتر اللعبة التي تعمل بحجارة البطارية، ولكن اشلين لا تتعب أبداً. وهي لا تشعر بالخطورة مهما كانت درجة الخطر، بل تقتحم كلما تراه، وتريد أن تلهو بكل ما قد تقع عليه عيناها!.
وقد كان يتعين على والديها جون وتارا الموازنة بين حماية طفلتهما، وبين ترك مساحة لها من الحرية لتعيش حياتها كطفلة عادية. ولكن عدم شعور اشلين بالألم أو الخطر جعلها تصيب يديها بضرر بالغ ما جعل والديها يعصبان يديهما برباط طبي بصورة مستمرة. تقول أمها «إنها تبدو كملاكم صغير. إننا لا نريد لاشلين أن تعيش في وهم. وقد أصبحنا نعرف كيف نتصرف معها، فهنالك أشياء تقلقنا بالفعل، ولكن معظم الأشياء باتت طبيعية بالنسبة لنا ولها». وبعد أن قرر والداها ادخالها المدرسة، طلبا من مسؤولي المدرسة منحها عناية خاصة بعد أن حكيا لهم عن ظروفها. وأصبح المدرسون يراقبونها بأبوية صادقة بعد أن باتوا يعلمون مثلاً أن درجة حرارة جسمها ترتفع بشكل خطر أثناء سير الحصص الدراسية، لذا فقد أصبحت هناك زجاجة ماء بارد على طاولتها داخل الفصل بصفة دائمة. واللافت أن زملاءها بالفصل أصبحوا يحذون حذوها ويحضرون معهم زجاجات الماء داخل الفصل. كما يقوم المدرس بلمس جبهتها بعد كل مرة خوفاً من ارتفاع حرارة جسدها.
أما بعد نهاية كل عطلة عن الدراسة، فإن أول شيء تفعله اشلين عند حضورها إلى المدرسة هو الوقوف أمام مكتب الممرضة كلاود ليتم فحصها بكل دقة. تقول تارا «إنهم يقومون بإزالة الرمال من تحت أقدامها، وغسل عينيها وتضميد الجروح التي قد يجدونها على جسدها دون أن تشتكي أشلين من شيء. أما زملاؤها بالمدرسة، فإن حب الاستطلاع قتلهم بشأن اشلين. فقد يقوم أحدهم بقرصها أو عضها ليرى ما إذا كانت تتألم، ولعل هذا يحدث كل يوم. وقد ضربها أحد زملائها بعصا على ذراعها ذات يوم بكل قوته ليرى بعد أن راهن زملاؤه على عدم إحساسها بأي ألم! تقول عنها معلمتها سو برايس «إن اشلين أصبحت كحقل تجارب علمية». وما من شك أن مشاكل اشلين الصحية سوف تتفاقم مع تقدمها في السن. وتحدث الإصابة بداء سيبا، الذي ينشأ عن التغير الاحيائي الوراثي لدى كلا الوالدين، عندما تفشل إحدى الخلايا العصبية في النمو بشكل طبيعي. ويؤدي عدم الإحساس بالألم إلى بطء استجابة المخ للاستجابة للإصابات التي قد يستغرق الشفاء منها ضعف مدة شفاء الإنسان العادي من إصابته. كما أن عدم الإحساس بالألم يتسبب في تلف الأربطة والمفاصل، حيث إن المصابين بداء سيبا يحملون مفاصلهم وركبهم وكواحلهم ما لا تطيق من الأوزان. يقول الدكتور كينجي نيهاي، اخصائي أمراض أعصاب الأطفال بالعاصمة اليابانية طوكيو، وهو أحد خبراء داء سيبا «ستكون هذه هي أكبر مشكلة تواجهها اشلين خلال الأعوام العشر القادمة. فهناك العديد من المرضى باتوا لا يقدرون على المشي جراء عدم إحساسهم بالألم». ويقول بعض الأطباء إن المصابين بـ «سيبا» قد يعانون من مشاكل عاطفية كذلك. وقد ينمو طفل مصاب بهذا الداء ولم تعرف نفسه كلمة «الخوف» أبداً فقد تكون الكثير من أحكامه على الأشياء خاطئة، وربما أتى بتصرفات محفوفة بمخاطر جمة، كاستخدام المخدرات أو قد يصبح حساساً للغاية، ورغم هذا فإن الدكتور لورانس شابيرو المتخصص في طب الأطفال النفسي يقول «إن الأطفال المعاقين إحساسياً يعيشون حياة طيبة. وليس ثمة سبب يدعونا للاعتقاد بأن اشلين قد تحيا حياة غير طبيعية».
غير انه يتعين على والدي اشلين انتقاء خيارات صعبة لابنتهما حتى تتمكن هي من التكيف في العيش بحالتها هذه ولو بعد حين. تقول أمها تارا «إنها تريد أن تصبح راقصة باليه». ولكن بسبب الأضرار التي قد تلحق بعظامها ومفاصلها بسبب الباليه، فإن والديها يفضلان لها السباحة بدلاً من ذلك. ويصعب تعليم اشلين اكتشاف علامات الالتهابات أو أعراض الأمراض التي قد تصيبها. فقد أصيبت مؤخراً بالتهاب لوزتين لم يكتشف أمره إلا بعد ستة أشهر من إصابتها به. وكم فرح والدها بعد أن أصبحت اشلين تبحث عن أمها فور رؤيتها للدم يخرج من جسدها، كما أنها تعلمت أن تسأل عما إذا كان الطعام الذي تتناوله كافياً أو لا.
وتبدو اشلين في معظم أيامها طبيعية كبقية الأطفال. يقول جون «إنها تبكي عندما تتألم مشاعرها أو يأخذ أحد لعبتها من بين يديها. وهي تشعر بالقبلة والدغدغة والمعانقة وتعرف معناها وقيمتها. إنها صاحبة أجمل ضحكة في العالم». ويأمل والدا اشلين أن تكون حياة ابنتهما حافلة بالكثير المثير رغم انها لا تشعر بالخوف من أي شيء، ورغم أنها فقدت جميع أسنانها الأمامية. وإذا بقيت كلمة ليقولها والدا اشلين، فإن تارا عبرت عن مشاعرهما صراحة حين قالت «إننا على استعداد لدفع كل ما نملك لكي تشعر ابنتي بالألم. نريدها من أعماقنا أن تتألم كما الآخرون!
…………………
التصنيفات