التصنيفات
قصص قصيرة

"حكاية بو " -قصة رائعة

ربما يسعد البعض بهذا اللقاء .. لكنني لا أضمن أن تدوم هذه السعادة حتى نهايته.. اللقاء هذه المرة سيكون مع السيدة الصغيرة فرجينيا كليم .. زوجة بو .. إدجار ألان بو ..

"لازلت أذكر إدجار آلان بو .. ذلك الصبي الذي ماتت أمه ثم مات أبوه ..ثم مات أخوه الأكبر وجُنت أخته الصغيرة "
ليلة مظلمة هي .. باردة .. لها فحيح كفحيح ألف أفعى غاضبة .. لا يأتيها نور .. إلا على هيئة ظلال أتت لتدهن جدران الغرفة وتزيدها ظلاما .. أحاول أن أكتم سعالي .. لأنني أشعر بطعم الدماء إذا سعلت .. بل هي دماء حقيقية .. دماء صدري .. كنت أسعل دما .. فقراء معدمين كنا .. نبذل جهدا حقيقيا لنعيش بآدمية كبقية بني الإنسان ; ننام على فرش و نشرب في أكواب … نستر أجسادنا … ونستر أقدامنا . أمام تلك النافذة المغلقة بإحكام كان يقف .. ينظر سارحا من خلالها لسماء لا يدري بم تهمس له بالضبط … يسمع سعالي فيستدير … ويتنهد .. ويقترب إليَ … يضم معطفه الموضوع على جسدي محاولا ألا يجعل للبرد فرجة إلى صدري .. لكن قدماي و ساقاي يرتجفان .. أراه ينظر إلىً بتلك الملامح المميزة التي يمتلكها … و كفه يمتد إلى جبيني … أحيانا كثيرة يشعرني حنانه وحده بالدفء .. فأنظر له برضا .. و أبتسم بشحوب .
أتذكر لما قابلته لأول مرة في حياتي .. كنت طفلة في السابعة .. أتى إلى بيتنا عندما لم يبق له مكان آخر يذهب إليه .. أمي ماريا هي عمته .. وهي تعمل خياطة فقيرة في بالتيمور و بالكاد كانت تجد مصروفات منزلها .. بالرغم من هذا فهو لما دخل إلى بيتنا ، كانت سعادتها به لا توصف … تلك كانت أول مرة أرى فيها إدجار .. إدجار آلان بو .
كانت طفلة
وكنت أنا طفلا
في هذه المملكة قرب البحر
تحاببنا بحب كان أكثر من حب
أنا .. و آنابيل لي
كان في العشرين من عمره .. لم أكن أعي عنه إلا أنه ابن عمي الذي توفيت أمه و توفي أبوه .. وهو هنا ليعيش معنا في هذا المنزل .. كانت له ملامح من الطراز الذي يجعلك تنظر لها مرارا بلا سبب واضح .. ملامح خلق فيها الحزن قبل أن تخلق … كنت دائما أحدق في ملامحه لفترات طويلة كطفلة لا تكترث بإخفاء إعجابها.. كان ينظر إلى وقتها ويبتسم .. ربما كنت أنا الشيء الوحيد في هذا العالم الذي استطاع جعل هذه الملامح تبتسم .
عدت أسعل دما مرة أخرى .. نظر إليٍَِِ بيأس وقلة حيلة .. ثم إنه نظر وراءه على الأرض إلى القط الذي كان يتثاءب في كسل و يموء في جوع.. رأيت إدجار يقوم من مكانه فجأة ويحمل القط .. ثم يقترب مني … ثم يزيح تلك الملاءة الرقيقة عن صدري بهدوء .. ثم يضع القط على صدري .. كنت مندهشة .. لكن كفه كانت تمسح على شعري بحنان لو خرج من قلبه إلى الدنيا لملأها نورا و ضياء .. ثم نظر إلى القط الرابض على صدري والذي كان يحاول النزول لكن إدجار يمنعه .. و أخذ يمسح على رأس القط حتى نام .. نام على صدري .. ثم ضم إدجار علَيَ ذلك المعطف الذي كنت أرتديه .. ونظر إليَ بابتسامة وقال لي .. " عسى أن ينجح هذا القط التعيس في تدفئة هذا الصدر الجميل "
هذا الموقف أتذكره كل ساعة .. ولا أنساه أبدا .. كان إدجار يعشقني .. كنت أشعر أنه يود لو يخرج روحه و يهديها إلي َ .. لم يكن يريد أن يفقدني بعد أن فقد كل شيء في حياته .. ولما كان يزورنا زائر في بيتنا للسؤال عني ، كان إدجار يصر أنني لست مريضة و أن كل ما لدي مجرد تمزق بسيط في أحد شراييني سرعان ما سيشفى .
أصدقاء آخرون قبله طاروا
وهو غدا سيتركني
كما مضت جميع آمالي من قبل
منذ أربعة و ثلاثين عاما كان إدجار يقف نفس الموقف .. لكن الراقدة على السرير تسعل كانت أمه إليزا .. كان وقتها في الثانية من عمره .. لا يفقه شيئا لكنه يشعر بحزن طفل يرى أمه تتألم وتبكي … كان في تلك الغرفة التي لم تكن تختلف عن هذه الغرفة الفقيرة .. يقف هو و أخوه ويليام ذو الأعوام الأربعة بينما أخته الصغيرة روزالي تزحف على الأرض … ظلت الأم تسعل وتنظر إلى أطفالها وتبكي.. كانت تحدث ويليام بصعوبة .. ثم رآها إدجار تنام .. ولم يرها إدجار ثانية … لم يكن يدرك أن أمه قد ماتت .
كان أبوه قد مات أيضا قبل أمه بشهور … هو حتى لا يعرف أبوه .. ولا يعرف شخصا يتذكر أبوه .. كأنه لم يكن … تفرق الأبناء بعد موت أمهم .. ويليام ذهب إلى أقاربهم في بالتيمور.. وروزالي الصغيرة أخذتها عائلة أخرى في بالتيمور و تبنتها .. أما إدجار فقد تبنته امرأة عقيمة لا تلد تدعى فرانسيس .. فرحت به فرحا كبيرا و تولت تربيته كما لو كان ابنها .
ربت مسز فرانسيس إدجار الصغير حتى العشرين من عمره .. كانت تعطف عليه جدا و تحبه من قلبها .. لكن زوجها آلان كان يكرهه .. ويرفض محاولاتها المستميتة لتبنيه.. وفي ليلة من تلك الليالي التي لا تنسى فارقت السيدة فرانسيس الحياة .. في تلك الليلة شعر إدجار بشعور مألوف … شعور تشعر به عندما تتركك أمك وحيدا في الدنيا .. شعر به مرة وهو ابن سنتين .. و هاهو يشعر به الآن مرة أخرى .
تحفر كل جذوة ظلا على الأرض لها وهي تموت
وكم تمنيت أن يأتي الصباح
عبثا
بعد سنتين تقريبا من مجيء إدجار إلى بيتنا سمعنا عن مرض أخوه ويليام بالسل .. كان هذا الخبر يبدو مثل القشة التي قسمت ظهر إدجار .. كنت أرى تلك الملامح الحزينة تبكي .. وفي ذات يوم ذهبنا معه لزيارة ويليام .. كان نائما على ذات السرير الذي كان يتشاركه مع إدجار في طفولتهما … وكان ويليام يسعل ويسعل بقوة .. و إدجار يخفي عينيه … حتى انتهى سعال ويليام .. لم يجرؤ إدجار على فتح عينيه .. في تلك اللحظة كان أخوه ويليام أيضا قد فارق الحياة .
مرت سنوات على تلك الحادثة .. حتى أتى ذلك اليوم الذي ذهب إدجار فيه لزيارة العائلة التي تبنت أخته الصغيرة روزالي .. لم يكن قد رآها منذ موت ويليام .. استقبلته العائلة المتبنية بابتسامات من النوع الذي لا يريحك عند رؤيته .. كان يريد رؤية روزالي … وكان يبدو أنهم يخفون عليه أمرا ما .. ارتفع توتر إدجار إلى أقصاه و هم يماطلون في الإجابة عن حال روزالي و أخذ يصرخ فيهم كالمجنون … لم يكن ليتحمل لو عرف أنها تركته هي الأخرى … كان سيقلب هذه الدنيا رأسا على عقب .. لكن العائلة هدأت من روعه و قالوا له أن أخته روزالي تتمتع بصحة جيدة .. لكنها حاليا تقيم في مكان أكثر أمنا .. مستشفى الأمراض العقلية .
انهار إدجار .. وسقط على الأرض يضربها بقبضتيه .. لم يكن لبشري أن يتحمل كل هذا … ليس هذا فقط .. بل كانت هناك أيضا صدمة عاطفية مرت به منذ فترة ليست بالقليلة و هزت أوصاله … كان يحب فتاة تدعى ساره رويستر تدرس معه في جامعة فيريجينيا .. لكنه اكتشف فجأة أنها لم تعد تريده بعد اليوم و أنها تزوجت من أول رجل ثري طلبها للزواج … لذا رأيت بعيني إدجار الذي لم يكن قد أكمل الخامسة و العشرين من عمره ينهار .. وكنا نهون عليه نواسيه خشية أن يقتل نفسه .
لازلت أسعل الدم .. كان سعالي يبدو كالصراخ المتقطع .. وهناك وقف إدجار آلان بو ينظر إليَ .. لازلت أذكر ذلك اليوم الذي طلب فيه من أمي الزواج مني و أنا لم أبلغ الثالثة عشر .. أمي ماريا وافقت بفرحة غامرة و كأنها كانت تنتظره … كان فقيرا جدا .. ودائما سيتذكره التاريخ بأنه كان أول شاعر و كاتب يعتمد على كتاباته كمصدر رزق وحيد له لم يجرب غيره… تلك الكتابات التي لم يهتم بها أحد في حينه .. أذكر أن أكبر جائزة فاز بها كانت مائة دولار في أحد المجلات التي يرسل إليها أعماله .
كان إدجار دائما ما يمسك يديً بتلك اليد الدافئة التي يمتلكها ويهمس لي ألا أتركه وأرحل .. و أن أتمسك بالحياة … و دفئه هذا وحده هو الذي جعلني أقاوم لفترة طويلة رغم القحط الذي كنت أعيش فيه .. كنت أحبه .. أعشقه .. لكنني في ذات ليلة .. عرفت أن لحظتي قد حانت .
همست باسمه في خفوت .. التفت إلي من بين همومه وهرع إلي ممسكا بيدي .. قلت له أنني أحببته .. منذ كنت في السابعة من عمري … اتسعت عيناه الحزينتين في قلق وترقرقت بالدموع … همست باسمه مرة أخرى … نظر إلي من بين دموعه … لم يعرف أبدا ما كنت أريد أن أقوله له .. لأنني لم أعد معه .. كنت قد تركت له الغرفة وحيدا ينادي علي ..وسمعت نحيبه و أنا أحلق بعيدا .
يا هذا النبي أيها الشرير
طيرا كنت أو إبليسا أو نبيا
بحق هذه السماء فوقنا
بحق رب واحد نعبده أنا و أنت
قل لروح يسحق الحزن حشاها
هل أستطيع أن أضم الغادة القديسة التي يسميها الملاك لينور ؟
أعانق الطاهرة المشعة التي يسميها الملاك لينور ؟
قال الغراب
أبدا بعد اليوم
لم يقدر إدجار حتى أن يوفر نفقات دفني .. لكن الجيران تطوعوا للقيام بهذا الأمر .. وعاش وحيدا من بعدي .. و أصبح يكتب بغزارة .. وكأن الكتابة ستعيد له ما فقده .. كتب عني قصيدتين .. وفي كل واحدة منهما سماني باسم قال أن الملائكة تسميني به .. فكنت "لينور" في قصيدة سماها "الغراب" .. و آنابيل لي في قصيدة بنفس الاسم … إدجار كان زعيما للقصائد الرومانسية و قصص الرعب والغموض القصيرة .. وحتى القصص البوليسية .. كان بارعا جدا في كتاباته .. الذوق الأمريكي زعم أن كتاباته كانت مليئة بالفوضى و الغموض .. لكن الذوق الفرنسي فهمه و تذوقه و ترجم جميع أعماله .
في هذه المملكة قرب البحر
هبت ريح من غمامة في الليل
قضت على آنابيل لي
فجاء أقاربها النبلاء
وحملوها بعيدا عني
ليدفنوها في قبرها
في هذه المملكة قرب البحر
حاولت مرات في صغري و هو في بيتنا أن أقر كتاباته .. رأيت مرة شعرا كتبه عنوانه " الأعراف " .. قرأت بعضه لكني لم أفهم شيئا .. لم أعلم أنني قد وقعت على القصيدة التي كتبها إدجار آلان بو في سن الخامسة عشرة من عمره والتي قلما يفهمها الكبار عند قراءتها .. كانت تتحدث عن شيء غريب … تتحدث عن أناس واقفين في مكان يدعى الأعراف .. و أنهم تساوت خطاياهم مع حسناتهم .. لا يعلمون إلى أي المصيرين سيكون مآلهم .. إلى النار .. أم إلى الجنة .. كانت كل معلومات القصيدة مستقاة من سورة الأعراف في القرآن الكريم … وتلك كانت أطول قصيدة كتبها إدجار في حياته.
لا يسطع ضياء القمر إلا و يجلب لي الأحلام
عن آنابيل لي الجميلة
ولا تلتمع النجوم دون أن أرى فيها
عيني آنابيل لي الجميلة
وهكذا أقضي الليل مسهدا
وأرقد بجوار حبيبتي .. حياتي .. عروسي
في ضريحها بجوار البحر
في قبرها بجوار البحر
بعد سنوات مضت بثقل .. في أحد شوارع بالتيمور بعد منتصف الليل .. كان يمشي رجل يدعي جوزيف والكر بهدوء متجها إلى منزله … لكن مشهدا استوقفه وجعل عينيه تتسعان … رجل فقير في حالة يرثى لها ملقى على الأرض .. كان يبدو يائسا بائسا وكأنه خرج من بين تراب هذا الشارع المقفر .. كان يحتاج لإسعاف عاجل .. طلب جوزيف الإسعاف وتم نقل الرجل إلى مستشفى كلية واشنطن القريبة .. و مدفوعا بالشهامة وحدها تابع جوزيف الرجل وهو في المستشفى للاطمئنان عليه … كان الرجل أبعد ما يكون عن التمسك بالحياة … وحاول المسعفون كل ما أمكنهم .. بلا فائدة .. يقول جوزيف أنه سمع الرجل ينادي بخفوت و يقول " يا إلهي .. ساعد روحي المسكينة يا إلهي " ثم فارق الحياة .
– هل تعرف اسم هذا الرجل يا مستر جوزيف ؟
– لا .. لقد وجدته ملقى في الشارع يتلوى
– دعني أر هنا .. هذه الأوراق التي يحملها .. هذا هو اسمه .. حسنا شكرا لك مستر جوزيف
– ماذا هو اسمه ؟
– إنه يدعى بو .. إدجار آلان بو .. هل مرعليك الاسم يا مستر جوزيف ؟
– لا .. كان فضولا ليس إلا .
لم يعرف حتى الآن السبب الحقيقي لوفاة إدجار آلان بو .. لكن سجلاته الطبية تشير إلى أنه يحتمل أن يكون من الخمر أو الكوليرا أو الذبحة الصدرية أو حتى السل .. ليس هناك شخص يعرف تحديدا .. أعلنت وفاته بعد يومين في الجريدة المحلية و تم دفنه في الميريلاند في بالتيمور .. استغرقت جنازته بالضبط ثلاثة دقائق في جو بارد و أجواء مقبضة .
حمدا لله
قد انتهى الخطر .. وولى المرض الطويل
وانتهت الحمى التي يسمونها "الحياة"
أعرف أن قواي قد فارقتني
وأنني عاجز عن تحريك عضلة واحدة
لكن هذا لا يهم
أشعر أنني أفضل حالا بكثير
لقد سكن كل هذا الأنين والعواء والتنهد و البكاء
ومعها سكن ذلك الخفق الرهيب في القلب
لقد انتهت الحمى التي يسمونها "الحياة

-تمت-
بقلم زورك نيمسيس
مع خالص ودي

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.