اخصائي طب المجتمع
أهداني أحد الأصدقاء شريط مسجل يتضمن تلاوات قرآنية مباركة لجزء من سورة القصص وسور أخرى، وكان القاريء مصريا ويرتل باسلوب جميل جدا يمتاز بالتأني والتكرار فأثر في كثيرا. أذكر أني عشت أوقات طويلة أسمع وأتدبر في الآيات العظيمة الجميلة من سورة القصص (من الآية 65 إلى خاتمة السورة الكريمة المباركة) مع تلك التلاوة الرائعة، وأتجول بين معاني التوحيد العظيمة وآيات الله الكونية التفكرية وقصة قارون وما تتضمنها من المعاني العالية الحقة لمفهوم المال في القرآن الكريم التي تاه عنها الناس وما زالوا يتيهون حتى وصل الحال بنا في هذا العصر أن ثلث البشر يأكلون ثلثي الأرزاق التي تجود بها الأرض كل عام تاركين إخوانهم من النوع الإنساني للفقر والجوع والحرمان حسب ما هو معروف ومعلوم من إحصاءات المنظمات الدولية المعتمدة عالميا.
حفظت تلك الآيات نتيجة التكرار والتفكر فيها، وتلوتها مقلدا تلك القراءة في خلواتي وفي صلواتي أحيانا. وكنت أمر على آيات تفكرية إيمانية رائعة عن الليل والنهار محاولا استشعارها والارتفاع بها إيمانيا، وتلك الآيات هي التالية: بسم الله الرحمن الرحيم (قل أرئيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون. قل أرئيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون. ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون.) (القصص: 7173). فكنت أحاول أن أسمع وأبصر وأشكر امتثالا لأمر خالقي على قدر استيعابي لتلك الآيات حينها.
ثم مرت السنين والاحداث وانتقلت للعيش في منطقة باردة تقع في شمال الكرة الأرضية، فوجدت نفسي في شتاء يمتاز بليل طويل جدا لا نكاد نرى النهار ولا الشمس فيه والعتمة تسود حتى أوقات النهار القليلة، وصيف ذو نهار طويل جدا يمتد على طول اليوم ولا تغيب الشمس فيه إلا ساعة ونصف أو ساعتين تقريبا وغياب الشمس يكون جزئيا كالوقت الذي نراه بعد صلاة المغرب مباشرة في بلدنا. بل سمعت أن في المناطق التي تقع في شمال المكان الذي نعيش فيه يأتي على الناس ليل مستمر يدوم أشهر عدة لا نهار فيه، يتبعه نهار يستمر لأشهر أخرى ولا ليل معه!!. كنت أقرأ وأسمع عن هذه الظاهرة لكن ليس الخبر كالمشاهدة. اعتاد الناس هنا على هذه الحياة ويعلمون أنها تساهم جزئيا في انتشار الأمراض النفسية الحسية التي تنتشر في مجتمعاتهم، إضافة إلى أسباب مهمة أخرى نتيجة التيه الفكري والسلوكي حسب ما أرى وأعتقد وتصدقه الأدلة العلمية المنطقية، ولهذا تراهم يفرون في أوقات العطل من العمل من هذا الواقع إلى دول الجنوب سياحة وفرارا إلى الأجواء "المعتدلة غير المتطرفة" حسب زعمهم ووصفهم.
وجدت في هذه الأجواء آيات عظيمة من آيات الله، وأحسست بقيمة وأهمية الليل والنهار وتعاقبهما للإنسان ولحياته على الأرض، فمهما بلغ الإنسان من علم وتمدن وإمكانيات حضارية تقنية عالية لا يستطيع الاستغناء عن نعمة الليل ونعمة النهار ونعمة تعاقبهما، فالشمس هنا عندما تشرق في الربيع بعد شتاء طويل يفرح بها الناس ويخرجون من بيوتهم لاستقبالها استقبالا مهيبا مهللين ومحيين كما يستقبل العاشق الولهان حبيبته بعد فراق طويل، "أفلا تسمعون"؟، وفي الصيف يحن الناس ويشتاقون إلى الظلمة والعتمة ليهنؤوا بنوم مريح هاديء ولا يغنيهم عن الليل غلق كل أبواب وشبابيك البيت واستخدام الستائر السوداء المعتمة فذلك كله ليس كعتمة الليل وظلمته الرائعة "أفلا تبصرون؟".
وبعد هذا التفكر الإيماني في الآيات القرآنية المقروءة والمشاهدة عيانا وبعد السمع والتبصر والفهم أتيت إلى قطف الثمار المعنوية المتمثلة بالشكر على تلك النعم الجليلة، فأنا أعلم وأقرأ وأبصر أمامي وأعيش في تلك الآيات العظيمة المهمة، آيات الليل والنهار، تمر علي في كل يوم، في كل ليل وفي كل نهار وفي كل لحظة من لحظات يومي وحياتي، لكن الأمر يتطلب كما اعتقد تصفية وتخلية دقيقة جدا من شوائب وأوساخ وأدران وأرذال منحطة تافهة لا تليق الالتقاء مع هذا التفكر الراقي في مكان واحد، فالمكان لا يتسع لكليهما!!، ويتطلب كذلك الانتباه العالي والتخلص بذكاء حاد من الغفلة المقيتة والألفة المدمرة التي تقضى على مشاهدة كل حسن وجمال وجلال مبثوث في هذا الكون الرائع ضمن مجال سمعنا وبصرنا، لأصل بعدها إلى أول السلم في درجة ومقام الشكر العظيم لربي وخالقي جل جلاله.