من منا – إخوة الإيمان – لا يعرف هذا الصحابي الجليل، الذي ضحى بكل ما يملك من أجل اللحاق بالرسول الكريم والانضمام إلى ركبه.
ولكن الذي لا يعرفه الكثير منا هو أن صهيباً لم يكن رومياً، وإنما كان عربياً خالصاً، فأبوه من بني نمير، وأمه من بني تميم.
فتعالوا معي نقلب صفحات تأريخه المشرق، لتروي لنا قصة مجده وعنفوانه.
فقبل البعثة بحوالي عشرين سنة كان والد صهيب سنان بن مالك النميري والياً على ((الأبلة))، من قبل كسرى ملك الفرس.
وكان صهيب أحب أولاده إليه فهو لم يجاوز الخامسة من عمره.
كان صهيب جميل الوجه، أحمر الشعر ممتلئ النشاط ذا عينين تشعان فطنة ونجابة.
ذهبت أم صهيب مع ابنها الصغير من حشمها وخدمها إلى قرية من قرى العراق، طلباً للراحة والاستجمام، فأغارت على القرية سرية من سرايا جيش الروم، فقتلت حراسها، ونهبت أموالها، وأسرت ذراريها.
فكان في جملة من أسرتهم صهيب.
-بيع صهيب في أسواق العبيد ببلاد الروم، وتداولته الأيدي فكان ينتقل من خدمة سيدٍ إلى خدمة سيدٍ آخر، حاله كحال الآلاف المؤلفة من الأرقاء الذين كانوا يملأون قصور بلاد الروم.
رأى صهيب بعينه ما يملأ قصور الروم من الرذائل والموبقات، وسمع بأذنيه ما يرتكب فيها من المظالم والمآثم، فكره ذلك المجتمع واحتقره.
وعلى الرغم من أن صهيباً نسي العربية، إلا أنه لم ينس أنه عربي الأصل من أبناء الصحراء.
وكان يشتاق إلى اليوم الذي يتحرر فيه من العبودية، ليعود إلى دياره ويعيش بقية عمره مع بني قومه.
وقد زاده الشوق إلى بلاد العرب، أنه سمع كاهناً من كهنة النصارى يقول لسيدٍ من ساداته: لقد اقترب زمان يخرج فيه من مكة في جزيرة العرب نبي يصدق رسالة عيسى بن مريم، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور.
وقد قيض الله لصهيب هذه الفرصة، وفر هارباً من عبودية أسياده، واتجه إلى مكة أم القرى وموئل العرب، ومبعث النبي المقترب.
ولثقل لسانه وحمرة شعره، أطلق عليه اسم صهيب الرومي.
حالف صهيب سيداً من سادات مكة هو عبد الله بن جدعان وأخذ يعمل في التجارة، فرزقه الله رزقاً كثيراً ومالاً وفيراً.
لكن تجارته ومكاسبه لم تنسه حديث الكاهن النصراني، وكان كلما عاد بذاكرته إلى حديث الكاهن، يقول في نفسه، متى يكون ذلك؟!.
وبعد فترة وجيزة جاءه الجواب.
ففي أحد الأيام عاد صهيب إلى مكة من إحدى رحلاته التجارية، فقيل له إن محمد بن عبد الله قد بعث وأخذ يدعو الناس إلى الإيمان بالله وحده، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن الفحشاء والمنكر.
فقال: أليس هو الذي يلقبونه بالأمين؟!
فقيل له: بلى.
فقال: وأين مكانه؟
فقيل له: في دار الأرقم بن أبي الأرقم عند الصفا.
وذهب صهيب مسرعاً حذراً إلى دار الأرقم، فلما وصل إليها وجد عند الباب عمار بن ياسر، وكان يعرفه قبل ذلك، فتردد لحظة ثم دنا منه وقال، ما تريد يا عمار؟
فقال عمار: بل ما تريد أنت؟
فقال صهيب: أردت أن أدخل على هذا الرجل فأسمع منه ما يقول.
فقال عمار: وأنا أريد ذلك أيضاً.
فقال صهيب: إذن ندخل معاً على بركة الله.
ودخلا معاً على الهدى والنور، واستمعا إلى ما يقول، فدخلت أشعة الإيمان في خافقيهما، ودخلا في الإسلام، وبقيا عند النبي صلى الله عليه وسلم يرشفان من هديه ويستأنسا بصحبته.
عانى صهيب مثلما عانى من قبله من الصحابة أذى قريش ونكالهم، فتحمل كل ذلك بنفس صابرة مؤمنة.
ولما أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لاصحابه بالهجرة إلى المدينة، عزم صهيب على أن يكون بصحبة النبي الكريم وصاحبه الصديق، لكن قريشاً شعرت بعزمه على الهجرة فمنعته من المضي في عزمه، وجعلت عليه جماعة من الرجال ليراقبوه، حتى لا تكون له فرصة اللحاق بالرسول وصاحبه، ويحمل معه ما حصل عليه من التجارة من ربح وفير.
ظل صهيب يتحين الفرص للحاق بهما، فخطط لحيلة، مكنته من التسلل من بين الرقباء وتوجه شطر المدينة.
فلما أحس به الرقباء هبوا من نومهم مذعورين، ومضوا خلفه مسرعين، حتى أدركوه.
فلما رآهم، وقف على مكان مرتفع، وأخرج سهامه من كنانته ووتر قوسه وقال: يا معشر قريش، لقد علمتم – والله – اني من أرمى الناس وأحكمهم إصابة والله لا تصلون إلي حتى أقتل بكل سهم معي رجلاً منكم.
ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي شيء منه، فقال قائل منهم: والله لا ندعك تفوز منا بنفسك وبمالك.
لقد أتيت مكة صعلوكاً فقيراً فاغتنيت وبلغت ما بلغت.
فقال: أرأيتم إن تركت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟
قالوا: نعم.
فدلهم على موضع ماله في بيته في مكة، فمضوا إليه وأخذوه منه، ثم أطلقوا سراحه.
أخذ صهيب يحث الخطى نحو المدينة فاراً بدينه إلى الله، غير آسف على المال الذي أنفق في جنيه زهرة العمر.
وكان كلما أدركه التعب، نشطه الشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذهب التعب، ويواصل السير.
فلما وصل إلى قباء رآه الرسول صلوات الله وسلامه عليه مقبلاً، فهشّ له وبشّ وقال: (ربح البيعُ يا أبا يحيى ربح البيعُ) وكررها ثلاثاً.
فارتسمت الفرحة على وجهه صهيب وقال: والله ما سبقني إليك أحد يا رسول الله وما أخبرك به إلا جبريل.
حقاً لقد ربح البيع.
وصدق ذلك وحي السماء.
وشهد عليه جبريل.. حيث نزل في صهيب قول الله عز وجل: ((ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، والله رؤوف بالعباد)).
فطوبى لصهيب بن سنان الرومي، وحُسنُ مآب.
منقول للفائدة