بقلم : الاستاذ محمد أبو عزة
قبل سنوات قليلة نقلت وكالات الأنباء من فلسطين المحتلة خبرا فحواه أن العصابات الصهيونية دنست ضريح الشهيد البطل عز الدين القسام في بلدة الشيخ بالقرب من مدينة حيفا العربية الفلسطينية الأسيرة في قبضة الكيان الصهيوني.
ومن المفهوم طبعا لماذا تدنس العصابات الصهيونية ضريح هذا البطل الذي سيظل إن شاء الله طاهرا مطهرا، وسيظل لساكنه البطل روضة من رياض الجنة إن شاء الله.
أما القسام الحي عند ربه وفي وجدان أمته العربية، فإنه المواطن العربي السوري، ابن مدينة جبلة على الساحل السوري، الذي استوطن فلسطين، لا لكي يجد فيها وطنه الثاني وحسب، بل لكي يقود فلسطين وشبابها، ويعبر بهم غمرات المعارك إلى أن ظفر بالحسنيين معا، النصر والشهادة.
أما النصر فإن الشيخ عز الدين القسام حارب الصهاينة الذين ظنوا أنفسهم شيئا تحت حماية جيش الاستعمار البريطاني، فأحجرهم القسام وإخوانه من المجاهدين، أي أدخلهم في جحورهم، أي مغتصباتهم المحمية بجيش الاستعمار البريطاني.
وليس عبثا أن موشى ديان وزير جيش الحرب الصهيوني الميت. كان يرى في منامه كابوسا ظل يتكرر كل ليلة. كان يرى نفسه شابا مطاردا، فيركض ويركض، إلى أن يدخل المستعمرة التي عاش فيها وهي مستعمرة نهلال في مرج ابن عامر الذي سرقه الصهاينة بتواطؤ من بعض السفهاء العرب من غير الفلسطينيين، وأطلقوا عليه اسم سهل يزراعيل، وهي المستعمرة الواقعة بين جنين والناصرة.
وليس صعبا تفسير هذا الكابوس الذي كاد يخنق موشي دايان في منامه كل ليلة، إذ أن دايان كان يتحدث بلا ريب عن عز الدين القسام، وثورة القسام التي كسرت الجيوش البريطانية في فلسطين وأذنابها في العصابات الصهيونية كحرس المستعمرات مثلا، أو منظمة ليحي الصهيونية.
عز الدين القسام لم يكن أسطورة، بل كان واقعا من لحم ودم، ثورة الشعب العربي الفلسطيني ونظمه في فصائل وخلايا كانت على أعلى درجة من الفعالية، والسرية أيضا.
ولم يكن القسام رعب الصهاينة وحدهم، بل كان رعب الإنكليز أيضا الذين لم يهدأ لهم بال، فحشدوا جنودهم وآلياتهم وطائراتهم، ليحاصروا القسام وصحبه الميامين الأبطال، الذين ثبت واحدهم كما قال أبو تمام قبل آلف ومائتي عام:
وأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها من تحت أخمصكِ الحشر
تردى ثياب الموت حمرا فما دجا الليلُ إلا وهي من سندس خضر
وعندما استشهد القسام في مثل هذا اليوم _ 20 تشرين الثاني/نوفمبر_ قبل سبعين عاما، ظن الاستعمار البريطاني أنه ارتاح واستراح في فلسطين، ولكن ليظهر القساميون بعد عامين في ثورة فلسطين الكبرى التي زلزلت الأرض تحت الإمبراطورية البريطانية، ومن هنا نفهم لماذا حمل معظم مواليد فلسطين في النصف الثاني من الثلاثينيات اسم عز الدين، أو اسم قسام، فالقسام لم يمت في معركة يعبد، وإن فاضت روحه الطاهرة فعلا في احراش (يعبد) ويده على زناد بندقيته التي فرغت من الرصاص.
لم يمت القسام بل ظل يسري في وجدان الشعب العربي الفلسطيني سريان الدم في العروق، وسريان النور في النهار.
لم يمت القسام لأن شباب الاستشهاد الذين انتفضوا في فاتحة عام 1988، بعد 53 سنة من غياب القسام جسدا..
شباب الاستشهاد الطوعي الفلسطيني أعلنوا أنهم يتيمنون بالقسام، وأنهم قساميون، وكتائبهم الضاربة تحمل اسم الشهيد الجليل عز الدين القسام، وتعرف اختصارا باسم (كتائب القسام).
ولهذا دنس المدنسون الصهاينة ضريح القسام، ومقبرة المسلمين في بلد الشيخ، ومقبرة المسلمين في حيفا، وكل المقابر التي تضم رفات الشهداء العظام.
بوضوح إذا، وبتحديد أدق إذن، نقطع بأن تدنيس الصهاينة للضريح الطاهر يعني إن عز الدين القسام يخيف الصهاينة حيا وميتا.
ولعل ما أدهش الصهاينة أن البقية الباقية من العرب في مدينة حيفا، أسيرة التهويد منذ عام 1948، هبوا يومها غاضبين وكأن القسام يقودهم، ورتبوا دوريات عزلاء لحراسة الضريح الطاهر ليل نهار، وكأنهم في ليل الاحتلال البريطاني، يمنعون الرياح الصهيونية الصفراء من إخماد شعلة القسام.
وإذا كان هذا يدهش "إسرائيل" فإن عليها أن تفهم بالمقابل أن روح القسام تسري في الأجيال العربية الفلسطينية المتعاقبة حتى التحرير.
كذلك فإن عليهم أن يفهموا أن خرافات الصهيونية ليست أكثر من غبار عالق بحذاء الشهيد العظيم عز الدين القسام.
الشهيد عز الدين القسام في سوريا:
ولد الشيخ (محمد عز الدين القسام) في بلدة جبلة على الساحل السوري عام 1300ه الموافق 1883م، وقيل عام 1882، وشهر باسم "عز الدين".
والده (عبد القادر بن مصطفى بن محمد القسام)، ووالدته (حليمة القصاب) وأشقاء عز الدين هم أمين وفخري أو فخر الدين، وفاطمة، أما إخوته لأبيه فهم أحمد ومصطفى وكامل وشريف.
وكان الشيخ عز الدين سادس سبعة إخوة وأشقاء، وثاني ثلاثة أشقاء.
وأسرة عز الدين كانت تعيش على الكفاف والصبر على ما قسم الله تعالى، ولكن رصيدها من الذكر حسن، فهي أسرة متدينة، ولها حظ في العلم الشرعي، يحبها الناس لما لها من المكانة الدينية.
أمضى الشيخ عز الدين طفولته في بلدة جبلة، قرأ القرآن، وتعلم القراءة والكتابة والحساب في "الكّتاب"، ودرس مبادئ العلوم الدينية على والده أولا، وتتلمذ في جبلة لشيخين عرفا بسعة العلم والمعرفة في اللغة والتفسير والحديث والفقه هما الشيخ سليم طيارة في الأزهر –البيروتي الأصل- والشيخ أحمد الأروادي.
ولما آنس منه أبوه رغبة في العلم أرسله إلى الأزهر وكان أشهر مؤسسة تعليمية في ذلك الزمان، وسكن في "رواق الشوام" في جهة ملاصقة للأزهر، وكان عمره آنذاك 14 عاما، وامضى في رحاب الأزهر 8 أعوام اعتمدت دراسته خلالها على الجهد الحر في الدراسة، وكان الانتقال من منزلة إلى أخرى بمقدار ما يستوعب من العلوم التي تؤهله للارتقاء إلى مصاف العلماء. وكانت العلوم الدينية (الفقه والتفسير والحديث والأصول والمواد اللغوية من نحو وبلاغه) هي مدار دراسته الأزهرية.
وعاد الشيخ عز الدين القسام إلى جبلة بعد أن أمضى حوالي ثماني سنوات في جوار الأزهر نال في نهايتها (الإجازة العالمية) الدالة على تضلعه في العلوم الإسلامية، أو هذا هو ما عرف من نهجه الحياتي المستقبلي، فهو لم يكن جماعة حافظا فقط، وإنما كان فقيها في كل ما جمع من العلوم والمعارف، وظهر ذ لك في أسلوب خطابه المستقبلي واستنباطاته الفقهية التي واكبت الحياة والحاجة.
وأول تطبيق عملي التزم به الشيخ عز الدين القسام هدم طبقة الأفندية المستعلية على الناس بما حازته من الأرض من غير وجه شرعي، فأخذ ينبه الغافلين ويرشد الضالين. وقيل أنه وضع كتابا من حوالي مئة صفحة عن الظلم الواقع على الفلاح السوري.
وضاق الأفندية بعز الدين وحاولوا نفيه إلى أزمير التركية، وارتحل هو من ذاته إلى عاصمة الخلافة العثمانية ليطلع على الأساليب المتبعة في الدروس المسجدية.
لكن مقامه لم يطل هناك لأنه شاهد من الجهل بالدين الإسلامي ما روعه، فعاد إلى جبلة وهو عازم على البداية من أول الطريق، وقرر أن يتولى تعليم الأطفال في الصباح، وتعليم الكبار في المساء، موظفا كل طاقاته وإمكاناته في التعليم، فكان يزور الأهلين في بيوتهم لإقناعهم بوجوب تعليم أبنائهم، وأقناعهم أن العلم لن يمنع أولادهم من العمل في البحر أو الجبل بل يتعلمون ويعملون.
ولتحقيق هذا الهدف فتح مدرسة في جبلة سنة 1912 درس فيها الأطفال واليافعين نهارا والكبار ليلا.
ودرس الحديث وتفسير القرآن الكريم في جامع (إبراهيم بن أدهم) بجبلة.
عين الشيخ عز الدين موظفا في شعبة التجنيد بجبلة، وكان بعد فراغه من عمله يعقد الحلقات الدرسية في مساجد البلد حتى أصبح اسمه على كل لسان على طول الساحل السوري وقرى التركمان.
وعندما صار الشيخ القسام خطيبا في جامع المنصوري –بوسط البلد- كان المصلون من جبلة والقرى المجاورة يتوافدون إلى المسجد ليستمعوا إلى خطيبه الذي يدعو إلى العمل الدوؤب والإيمان الصادق بالله.
هذا إلى جانب مواصلة تعليم الأطفال واليافعين والكبار أصول القراءة والكتابة وتلاوة القرآن.
وقبل ذلك بعام ؛حين غزا الإيطاليون البلاد الليبية في عام 1911 دعا الشيخ عز الدين إلى التطوع للجهاد في ليبيا ضد الغزاة الطامعين، ونجح في جمع الأموال والرجال لهذه الغاية السامية، فقد كان يخرج إلى الشوارع ويقود المظاهرات في جبلة واللاذقية ومدن وقرى الساحل، واتصل بالحكومة العثمانية لمنح المتطوعين_ وهم بالمئات –سفينة تنقلهم من الإسكندرية التي نجحوا في الوصول إليها إلى السواحل الليبية ولكن هذه الباخرة لم تصل، ويقال أن الشيخ عز الدين دخل إلى ليبيا مع عدد من المتطوعين.
عندما نشبت الحرب العالمية الأولى سنة 1914 تطوع للخدمة في الجيش العثماني، وأرسل إلى معسكر جنوب دمشق (الكسوة)، ثم رجع إلى بلده بعد الحرب عام 1916.
وحين تعرضت سورية الطبيعية لمؤامرة فرنسية وبريطانية، وبعدافتضاح مؤامرة سايكس بيكو، ونزول القوات الفرنسية في مدينة اللاذقية والساحل السوري( في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر 1918) كان الشيخ عز الدين أول من رفع راية مقاومة فرنسا في تلك المنطقة، وأول من حمل السلاح في وجهها، وهو كان وراء اندلاع المقاومة في منطقة صهيون من جبال اللاذقية.
بدأ الشيخ تعبئة الفلاحين من داخل المسجد، بتأديب رواد المسجد بأدب الإسلام، وشحنهم برأي الدين فيما يجري من شؤون حولهم رافضا الوصاية والحماية التي طرحتها لجنة "كرين" الأمريكية.
ليكون قدوة للناس في الجهاد بالمال والنفس،باع الشيخ بيته ليشتري سلاحا ثم عكف على تدريب المتطوعين على فنون القتال، وعندما أحس بالملاحقة الفرنسية اختار جبال صهيون المطلة على اللاذقية، وأتخذ قاعدة عسكرية في قمة منيعة قرب قرية "الزنقونه".
ومن قاعدته كان يغير على مواقع الفرنسيين في الجبال ومشارف المدن.
حاول الفرنسيون استمالته وثنيه عن الجهاد، وحين رفض أصدورا حكما غيابيا بإعدامه كما وضعوا جائزة مالية كبيرة لمن يأتي به حيا أو ميتا.
ورد الشيخ عز الدين بدمج حركته مع جماعة عمر بيطار المجاهدة لتصبح الضربات أشد، خصوصا بعد التنسيق مع حركات مجاهدة كانت تعمل في جبل الزاوية وجبال اللاذقية، وألحق هزائم بالفرنسيين في "بانيا" و"النيحا" وغيرها.
وحين ضعفت الثورة في سورية وسكتت بنادق الثوار لأن فرنسا ضيقت عليهم الخناق بعد أن جيشت كل جيوشها، واتبعت سياسة الأرض المحروقة لإطفاء الجذوة المتقدة، يقابل ذلك ضعف الإمكانات في أيدي الثوار السوريين قرر الشيخ الانتقال إلى فلسطين، ليبدأ الثورة من هناك، من أرض الإسراء والمعراج. وهذا ما كان