في هذه الأيام التي تنفذ فيها إسرائيل عدوانًا همجيًا وحشيًا بربريًا على قطاع غزة، تقتل فيه المئات وتجرح الآلاف، وتهدم البيوت ومقرات الشرطة والورش والمساجد والمستشفيات، نتذكر شهداء الجهاد الفلسطيني الأبرار الذين لم ينهزموا نفسيًا وإنما آمنوا بفكر المقاومة والنضال.
نتذكرهم ونحن نرى الطيران الإسرائيلي يحلق ويوزع الموت والدمار ولا يستطيع أحد أن يوقفه.
نتذكر من هؤلاء يحيي عياش لأمرين اثنين: الأول أنه لم ينهزم وإنما آمن بالمقاومة ولا خيار سواها، والثاني: أنه كان مهندس العمليات الفدائية وصانع المتفحرات التي أرعبت الصهاينة وذاقتهم صنوف الخوف والرعب والهلع.
كان يحيي عياش عبقريًا في الإبداع والابتكار والتجديد في المقاومة، ومن كثرة ما فعله عياش في الصهاينة نال إعجابهم من شدة ذكائه وألمعيته، فيقول عنه "شمعون رومح" أحد كبار العسكريين الإسرائيليين: "إنه لمن دواعي الأسف أن أجد نفسي مضطرا للاعتراف بإعجابي وتقديري بهذا الرجل الذي يبرهن على قدرات وخبرات فائقة في تنفيذ المهام الموكلة إليه، وعلى قدرة فائقة على البقاء وتجديد النشاط دون انقطاع".
أما وسائل الإعلام الصهيونية فقد لقبته ب: "الثعلب" و"الرجل ذو الألف وجه" و"العبقري".
وبلغ الخوف والهلع الصهيوني من يحيي عياش لدرجة أن يقول رئيس الوزراء آنذاك إسحاق رابين: "أخشى أن يكون عياش جالسًا بيننا في الكنيست".
إسحاق رابين قال عن عياش أيضًا: "لا أشك أن المهندس عياش يمتلك قدرات خارقة لا يملكها غيره، وإن استمرار وجوده طليقًا يمثل خطرًا واضحًا على أمن إسرائيل واستقرارها".
أما "موشيه شاحاك" وزير الأمن الداخلي الصهيوني آنذاك فقد قال عنه: "لا أستطيع أن أصف المهندس يحيى عيَّاش إلا بالمعجزة؛ فدولة إسرائيل بكافة أجهزتها لا تستطيع أن تضع حدًّا لعملياته".
وُلِد يحيى عيَّاش في مارس 1966، نشأ في قرية "رافات" بين نابلس وقلقيلية لعائلة متدينة تصفه بأنه حاد الذكاء، دقيق الحفظ، كثير الصمت، خجول هادئ. بدأ يحفظ القرآن الكريم في السادسة من عمره ، نشأ في رحاب المساجد، وبرع في علم الكيمياء والتحق بجامعة بيرزيت- قسم الإلكترونيات. وفى الجامعة أصبح أحد نشطاء الكتلة الإسلامية، ولم يمنعه ذلك من إتمام دراسته بتفوق ملحوظ . تزوَّج عيَّاش بعد تخرجه من ابنة عمته، ورزقه الله ولده الأول "البراء"، ثم "يحيى" قبل استشهاده بأسبوع تقريبًا.
كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى والتي اندلعت في ديسمبر 1987، هي الشرارة التي فجرت عبقرية عياش وكان عمره وقتها 21 عاما، حيث كان صاحب فكرة "العمليات الاستشهادية" باعتبارها نوعًا جديدًا من الجهاد والمقاومة لم تألفه الساحة الفلسطينية.
وافق قادة حماس على فكرة يحيي عياش الذي بدأ التنفيذ، وأصبحت مهمته إعداد السيارات المفخخة والعبوات شديدة الانفجار، فأصبحت معادلة الصراع بين عدو مكبل بالخوف من الموت وشعب يعشق التضحية في سبيل الله.
أفكار يحيي عياش وعبقريته نقلت المعركة إلى قلب المناطق الآمنة التي يدّعي اليهود أن أجهزتهم الأمنية تسيطر فيها على الوضع تماماً. فبعد العمليات المتعددة التي نفدت ضد مراكز الاحتلال والدوريات العسكرية نفذ مقاتلو حماس بتخطيط من قائدهم عياش عدداً من العمليات الهامة والمؤثرة.. فتتوالى صفوف الاستشهاديين لتبلغ خسائر العدو في عمليات المهندس يحيي عياش في تلك الفترة 76 صهيونيًّا، 00 جريح. وكان القاسم المشترك في كل تلك لعمليات (حقيبة المهندس) الممتلئة بالمتفجرات.
ومنذ 25 أبريل 1993م عرفت المخابرات الصهيونية اسم يحيي عيَّاش كمهندس العبوات المتفجرة، والسيارات المفخخة، وتعتبر فترات الملاحقة في حياة عياش طويلة ومجهولة قضاها في التنكر والتنقل للاختفاء عن عيون الصهاينة.
المطلوب رقم واحد
إنجازات المهندس التي أنهكت الاحتلال وأجهزته الأمنية جعلته المطلوب رقم 1 للأجهزة اليهودية التي طاردته طوال 5 سنوات، وسخرت كل إمكانياتها لكشف هذا اللغز، وشكلت وحدة تنسيقية بين كافة الأجهزة الأمنية لتقصي أية إشارة عن تحرك عياش ونظموا دراسات عديدة حول شخصيته وأسلوب حياته، وراقبوا أصدقاءه في فترة الدراسة، وأرسلوا وحداتهم الخاصة التي نصبت له الكمائن في الليل والنهار في المدن والمخيمات في الغابات والكهوف؛ حيث لم تعد هناك قرية في الضفة الغربية إلا وداهمتها وحدة مختارة من جنود الاحتلال الصهيوني؛ بحثًا عن الأسطورة الجهادية التي ولدتها وأهلتها حماس.
مرات كثيرة أنجى الله يحيى عياش قبل وصول الصهاينة بدقائق في حي القصبة في نابلس، وفي حي الشيخ رضوان في غزة؛ حيث استشهد رفيق جهاده الشهيد كمال كحيل، ومطلوب آخر من حماس هو إبراهيم الدعس.
ارتقاء إلى السماء
وبعد أربع سنوات مليئة بأشلاء الصهاينة تمكَّن جهاز الشاباك من الوصول إلى معلومات عن موقع يحيي عياش، وتسلله إلى قطاع غزة واختبائه عند صديقه " أسامة حماد"، لكن كان لهذا الصديق خال خائن على صلة بالمخابرات الصهيونية، وكان يعمل مقاول بناء، وأخذ يلمِّح لأسامة بإمكانية إعطائه جهاز تليفون محمول لاستخدامه، وكان كمال الخائن يأخذ المحمول ليوم أو يومين ثم يعيده، وقد اعتاد والد المهندس الاتصال بيحيى عبر المحمول، وقد طلب منه يحيى مرارًا الاتصال على الهاتف المنزلي، وقد اتفق يحيى مع والده على الاتصال به صباح الجمعة على الهاتف المنزلي. وفي صباح يوم الجمعة الخامس من يناير 1996م اتصل العميل الخائن كمال حماد بأسامة وطلب منه فتح المحمول؛ لأنه يريد الاتصال من إسرائيل، واتضح أن خط الهاتف الأرضي مقطوع. وفي الساعة التاسعة صباحًا اتصل والد يحيى على الهاتف المتنقل، وقد أبلغ أسامة أنه لم يستطع الاتصال على الهاتف المنزلي. وما كاد يحيي عياش يُمسك بالهاتف ويقول لوالده: "يا أبي لا تتصل على المحمول…"، إلا ودوى انفجار وسقط المهندس العبقري شهيدًا.
وإذا كانت الأمة قد حزنت حزنًا بالغًا على فقدان هذا الابن الذكي والمجاهد العبقري، إلا أن عزاءها أنه أسس مدرسة تخرج فيها العشرات من المهندسين ممن أرقوا مضاجع الاحتلال.
أهم العمليات التي نفذها يحيي عياش
– 6 نيسان 1994 : الشهيد "رائد زكارنة" يفجّر سيارة مفخّخة قرب حافلة صهيونية في مدينة العفولة ؛ مما أدّى إلى مقتل ثمانية صهاينة ، و جرح ما لا يقل عن ثلاثين . و قالت حماس إن الهجوم هو ردّها الأول على مذبحة المصلين في المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل .
– 13 نيسان 1994 : مقاتل آخر من حركة "حماس" هو الشهيد عمار عمارنة يفجر شحنة ناسفة ثبتها على جسمه داخل حافلة صهيونية في مدينة الخضيرة داخل الخط الأخضر ؛ مما أدّى إلى مقتل 7 صهاينة و جرح العشرات .
– 19 تشرين أول 1994 : الشهيد صالح نزال – و هو مقاتل في كتائب الشهيد عز الدين القسام – يفجّر نفسه داخل حافلة ركاب صهيونية في شارع "ديزنغوف" في مدينة "تل أبيب" ؛ مما أدّى إلى مقتل 22 صهيونياً و جرح ما لا يقل عن 40 آخرين 25 .
– 15 كانون أول 1994 : الشهيد أسامة راضي – و هو شرطي فلسطيني و عضو سري في مجموعات القسام – يفجّر نفسه قرب حافلة تقلّ جنوداً في سلاح الجو الصهيوني في القدس ، و يجرح 13 جندياً .
– 22 كانون ثان 1995: مقاتلان فلسطينيان يفجران نفسيهما في محطة للعسكريين الصهاينة في منطقة بيت ليد قرب نتانيا ؛ مما أدّى إلى مقتل 23 جندياً صهيونياً ، و جرح أربعين آخرين في هجوم وُصف أنه الأقوى من نوعه ، و قالت المصادر العسكرية الصهيونية إن التحقيقات تشير إلى وجود بصمات المهندس في تركيب العبوات الناسفة .
– 9 نيسان 1995 : حركتا حماس و الجهاد الإسلامي تنفّذان هجومين استشهاديين ضد مستوطنين صهاينة في قطاع غزة ؛ مما أدّى إلى مقتل 7 مستوطنين رداً على جريمة الاستخبارات الصهيونية في تفجير منزل في حيّ الشيخ رضوان في غزة ، أدّى إلى استشهاد نحو خمسة فلسطينيين ، و بينهم الشهيد "كمال كحيل" أحد قادة مجموعات القسام و مساعد له .
– 24 تموز 1995 : مقاتل استشهادي من مجموعات تلاميذ المهندس "يحيى عياش" التابعة لكتائب الشهيد "عز الدين القسام" يفجّر شحنة ناسفة ثبتها على جسمه داخل حافلة ركاب صهيونية في "رامات غان" بالقرب من "تل أبيب" ؛ مما أدّى إلى مصرع 6 صهاينة و جرح 33 آخرين .
– 21 آب 1995 : هجوم استشهاديّ آخر استهدف حافلة صهيونية للركاب في حيّ رامات أشكول في مدينة القدس المحتلة ؛ مما أسفر عن مقتل 5 صهاينة ، و إصابة أكثر من 100 آخرين بجروح ، و قد أعلن تلاميذ المهندس يحيى عياش مسئوليتهم عن الهجوم . و قد وصل مجموع ما قُتل بيد "المهندس" و تلاميذه ما يزيد عن ستة و سبعين صهيونياً ، و جرح ما يزيد عن أربعمائة آخرين.
ثأرًا ليحيي عياش
بعد استشهاد المهندس لم يكن بوسع كتائب القسام أن تترك هذا العدوان الصهيوني دون ردّ خاصة ودماء جوهرتها الثمينة تنزف على أرضِ غزة، فبعد خمسين يوماً بالضبط من استشهاد المهندس، وفي الخامس والعشرين من فبراير 1996 بدأت سلسلة هجمات استشهادية في القدس والمجدل وبعد أسبوع في القدس و"تل أبيب" ليسقط في هذا الأسبوع القساميّ ما يقرب من ستين قتيلاً صهيونياً عدا عشرات الجرحى، و بادرت على إثرها قوات الاحتلال الصهيوني إلى هدم منزل المهندس وتشريد أهله من بيتهم في رافات، و فيما يلي قائمة بعمليات الثأر القسامي للمهندس الشهيد يحيي عياش:
– عملية الحافلة 18 الأولى: بعد خمسين يوماً من عملية الاغتيال الجبانة بحقّ يحيى عياش قائد مجموعات الاستشهاديين في كتائب عز الدين القسام تمكّن المجاهد مجدي محمد أبو وردة في يوم 25/2/1996 من صعود الحافلة التي تعمل على خط رقم 18 المؤدّي لمقر القيادة العامة لكلّ من الشرطة الصهيونية و جهاز المخابرات العامة (الشاباك)، وكان المجاهد يرتدي ملابس الجنود الصهاينة ويحمل نحو 15 كجم من المتفجرات الممزوجة بكمية كبيرة من المسامير والقطع المعدنية الحادة، و في نحو الساعة السادسة و 48 دقيقة فجّر الشهيد أبو وردة المتفجرات أثناء توقف الحافلة عند إشارة مرورية مما أدّى إلى تدمير الحافلة المكوّنة من مقطورتين بالكامل وانشطارها إلى نصفين واحتراق جزء منها كلياً. كما تحطّمت عدة سيارات كانت تقف بالقرب من الحافلة وتضررت حافلة أخرى تعمل على خط رقم 36 كانت تقف وراء الحافلة التي استهدفتها العملية البطولية.
وقد أسفرت العملية عن مقتل 18 صهيونياً بينهم 13 جندياً وعدد من ضباط وكوادر الشاباك الذين كانوا في طريقهم إلى مقر عملهم بالإضافة إلى إصابة أكثر من 50 صهيوناً بجروحٍ و حروق مختلفة حسب الإحصاءات الصهيونية.
– عملية عسقلان: بعد أقل من 45 دقيقة من ملحمة البطل مجدي أبو وردة، و فيما كانت الساعة تشير إلى السابعة و النصف، أوصلت مجموعات الإسناد في كتائب الشهيد عز الدين القسام البطل إبراهيم حسن السراحنة الذي كان يرتدي أيضاً زي الجنود الصهاينة ويحمل حقيبة احتوت على خمسة عشر كيلو غراماً من المتفجرات المحشوة بالمسامير والكرات المعدنية إلى محطة سفر الجنود الصهاينة عند مفترق الطرق في مدينة عسقلان حيث تقدّم المجاهد القسامي ودخل إلى المحطة التي كان فيها أكثر من 35 جندياً و مجندة، و قد فجر البطل نفسه وسط مجموعة الجنود مما أدّى إلى مقتل 3 جنود صهاينة و إصابة ثلاثين صهيونياً بجروحٍ وصفت جراح 19 منهم بالخطيرة.
– عملية الحافلة 18 الثانية: نفّذها رائد عبد الكريم الشغنوبي في الحافلة العاملة على خط 18 للمرة الثانية خلال أسبوع. ففي يوم الأحد 3/3/1996، فجّر رائد عبواته الناسفة داخل الحافلة بعد أن تجاوز إجراءات الأمن والمراقبة الشديدة التي فرضت من قبل الشرطة وحرس الحدود بعد عمليتي السراحنة و أبو وردة، و دمّر الانفجار الحافلة وتطاير حطامها في دائرة قطرها خمسين متراً تقريباً، و أعلن المتحدث الرسمي باسم الشرطة العسكرية عن مقتل 19 صهيونياً بينهم 3 جنود و جرح 10 آخرين كانت جروح 7 منهم بالغة الخطورة .
– عملية ديزنغوف: و بعد أيام قليلة من عملية الشغنوبي و أثناء احتفال الصهاينة بأعيادهم فجّر المجاهد رامز عبيد عبوة ناسفة كان يحملها وسط ساحة ديزنغوف في "تل أبيب" مما أدّى إلى مقتل 13 صهيونياً و إصابة العشرات بجراح.
ممدوح عثمان
31 – 12 – 2022